تشهد العلاقات بين أنقرة ودمشق شدّاً وجذباً. فبعد أن وصلت “مفاوضات التطبيع” بين الطرفين إلى حدود قرب انعقاد لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان والسوري بشار الأسد قبل فترة، عادت وتراجعت مع دخول تركيا في جوّ الانتخابات الرئاسية والنيابية.
راهن الأسد على احتمال فوز المعارضة التركية في الانتخابات. كان الأسد يظن أن فوز المعارضين قد يكون مقدمة لإحتمال انسحاب الجيش التركي من الأراضي السورية، وبالتالي تحقيق ما يطالب به أردوغان اليوم، إلا أنّ ذلك لم يُكتب له النجاح. فاز أردوغان وعاد أقوى مما كان عليه.
الحراك الدبلوماسي
اليوم يعود الحراك الدبلوماسي إلى حيث توقف قبل تلك الانتخابات. الطرفان لهما مصلحة في التلاقي مجدداً، بينما تلعب روسيا دور الوسيط الفاعل، من أجل تقريب وجهات النظر بين الطرفين اللذين يؤكدان أن التلاقي أمر واقع ولا مفرّ منه، لكن العبرة تبقى في الجرأة على “ضرب المواعيد”.
لسوريا عدد من التحفظات على السلوك التركي. كما لأنقرة أيضاً عتب على دمشق لأنّها لا تتفهم الهواجس التركية خصوصاً لناحية إصرارها على بقاء قواتها على الأراضي السورية.
وربطاً بهذا العتب المتبادل، تعتبر الأوساط السورية أنّ اردوغان شخص يصعب الوثوق به بشكل كامل، وشخصيته وسلوكه يجعلانه قابلاً إلى الانقلاب على أي اتفاق يقطعه على الآخرين في أيّ لحظة. ولهذا تتهمه أوساط النظام في سوريا، على لأنّه لا يلتزم بتعهداته ومنها تلك التعهدات التي قطعها طول السنوات الفائتة حول تفكيك مجموعات المعارضة التي تصنفها سوريا “إرهابية”، كما تقول إنّ اردوغان لم يقم بترحيل المقاتلين الأجانب خارج الأراضي السورية وكذلك لم ينسحب عسكرياً من المناطق السورية، كما تستشهد بما قام به تجاه حليفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حينما نكث بالوعد وسلم قادة “أزوف” إلى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي خلال زيارته أنقرة.
تضيف تلك الأوساط أنّ أردوغان لم ينفّذ “اتفاق سوتشي” الموقع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العام 2018. وفي المقابل تتهم تركيا نظام الأسد بالأمر نفسه.
حاجة متبادلة
لكن برغم كل هذه التهم المتبادلة، فثمة حاجة متبادلة بين الطرفين اليوم إلى التلاقي. فدمشق تحتاج إلى الانفتاح على تركيا للأسباب التالية:
- سوريا بحاجة إلى الانفتاح على كامل دول الجوار ومن بينها تركيا طبعاً، وذلك من أجل كسر العزلة التي يفرضها الغرب على النظام، فيمنع اللاجئين السوريين من العودة، كما يرفض أي مساعدة تُقدّم لـ”سوريا التي يحكما الأسد”.
- سوريا بحاجة إلى أن تكون على علاقة جيدة مع أنقرة في هذا التوقيت خصوصاً، وذلك بعد أن لمس الأسد “فرملة” من الدول العربية (الخليجية خصوصاً) تجاه التقرّب منه.
- بانفتاحها على أنقرة، تستطيع دمشق قطع الطريق على الدعم الذي تقدمه تركيا إلى المعارضين السوريين، فهذا الأمر يصعب تحقيقه من دون فتح خطوط عميقة مع اردوغان.
- تعرف دمشق جيداً أنّ هذه الطموحات لا تتحقّق إلاّ من خلال تأمين مصالح تركيا وتنفيذ الشروط التي تضعها، وكذلك من خلال تفهّم هواجسها الأمنية.. لكن ماذا عن تركيا؟.
في المقابل أيضاً، فإنّ لأنقرة الكثير من الهواجس وهي الأخرى ما زالت بحاجة إلى التطبيع مع الأسد، وذلك لأسباب مختلفة، ومنها الأمني والسياسي وحتى الاقتصادي والاجتماعي.
وفي الوقت نفسه تبدي أنقرة استعدادها للعمل مع سوريا في قضايا مكافحة الإرهاب، وإقامة حوار سياسي، والبحث في عودة اللاجئين وكل هذا يشير إلى أنّ أنقرة مهتمة جداً بالتلاقي مع دمشق وتقوم بذلك ضمن سياسة مستقلة قائمة على حماية مصالحها الوطنية.
الهواجس المتعددة
أمّا هذه الهواجس، فهي على الشكل التالية:
- تُظهر تركيا امتعاضاً من دعم الولايات المتحدة لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي يغلب على تكوينها “وحدات حماية الشعب” الكردية.
هذه المجموعة تعدّها أنقرة امتداداً سورياً لـ”حزب العمال الكردستاني”، الذي تدرجه تركيا على قوائمها الخاصة بالإرهاب، وكذلك تفعل الولايات المتحدة والدول الأوروبية. هذه الازدواجية لدى الدول الغربية لناحية اعتبار “قسد” حليفاً وثيقاً، تعرقل الخطط التركية لحماية حدودها الجنوبية، وهذا بدوره يدفع أنقرة صوب المزيد من التنسيق مع سوريا.
- وجدت تركيا أنّ التنسيق مع روسيا هو الحل في ظل تقلّص الوجود الأمريكي والإصرار في المقابلة على تقديم المزيد من الدعم لـ”قسد”. ولهذا سارعت تركيا إلى تهيئة الظروف من أجل مشاركتها مع روسيا وإيران، باعتبار الأطراف الثلاثة “دولاً ضامنة” في مفاوضات آستانة، التي بات يُنظر إليها على أنّه البديل الواقعي لمفاوضات جنيف، التي يدعم الغرب.
هذا التقارب مع طهران وموسكوـ يضمن لتركيا محاولات تثبيت وجودها العسكري في مناطق خفض التصعيد في شمال – غربي سوريا، من دون الاصطدام مع قوات النظام هناك أو مع روسيا أو حتى إيران.
- بعد انحسار موجة “الربيع العربي”، اكتشفت تركيا سريعاً، أنّها مجبرة على إعادة النظر في سياساتها الخارجية، فكان لا بدّ من العودة مجدداً إلى سياسة “صفر أزمات” مع المحيط.
بدأت انقرة مذّاك بتحسين علاقاتها الإقليمية، خصوصاً بعد ازدياد الضغوط الاقتصادية عليها، ومحاولتها استعادة الاستثمارات الخليجية والأسواق العربية وكذلك الطرق التي كانت متاحة أمامها من أجل الوصول السريع إلى الأسواق في الخليج وفي افريقيا… وكل هذه الطرق تمر عبر سوريا أو هي إحدى نقاطها المهمة.
- مع تفاقم الأزمة الاقتصادية داخل تركيا، نجحت أحزاب المعارضة في إبراز ملف اللاجئين السوريين واستخدامه في تأجيج الاستقطاب السياسي، بل نقله من المربع الإنساني إلى دائرة الصراع السياسي، والتأزم الاقتصادي.
صورّت المعارضة التركية الوجود السوري على أنّه جزء عميق من الأزمة الاقتصادية، خصوصاً قبل الانتخابات. وقد أظهرت أحزاب المعارضة توافقاً واسعاً حول فكرة “إعادة العلاقات مع النظام السوري” من أجل النجاح في تسوية ملف اللاجئين وإعادتهم إلى بلادهم، فأمسى هذا الملف مطلباً شعبياً في الداخل تركيا. هذا التطوّر دفع اردوغان إلى التحرك السريع من أجل نزع هذه الورقة المؤثرة من بين يديّ المعارضة، فحاول إحراز تقدم فيها حتى لا يفقد السيطرة على السلطة، التي احتفظ بها على مدى 20 عاماً. نجح أردوغان نسبياً في الملف، كلنّ استكماله غير ممكن من دون التطبيع مع النظام في سوريا.
كاتب لبناني