بينما تواصل آلة القتل الإسرائيلية ارتكاب جرائم حرب بانتقامها الأعمى وعقابها الجماعي لأهل غزة وتورطها في تهجيرهم داخل القطاع، تتحايل الحكومات الغربية على الرأي العام العربي والعالمي اللذين تروعهما مشاهد المقتلة الإسرائيلية والأعداد المفزعة للضحايا من الأطفال والنساء والرجال بإطلاق التصريحات التي تطالب «حكومة الحرب» في تل أبيب باحترام القانون الدولي العام والقواعد المنظمة للحروب ومقتضيات حماية المدنيين وتدعو إلى إدخال المساعدات الإنسانية العاجلة إلى غزة.
وهذه، جميعها، تصريحات فارغة من المضمون، أولا، لكونها لا ترتبط بممارسة ضغوط فعلية على إسرائيل لكف آلة القتل عن الفلسطينيين في غزة وللامتناع عن إصدار أوامر التهجير من شمال القطاع إلى جنوبه والابتعاد عن إطلاق العملية العسكرية الأرضية بكل ما تحمله من أخطار كارثة إنسانية محققة. هي تصريحات فارغة من المضمون، ثانيا، لكونها لم تحل بين الحكومات الغربية وبين إغراق إسرائيل بالمساعدات العسكرية والمالية ولم تحل بين الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا وبين إرسال قطع عسكرية إلى شرق المتوسط للإعلان عن الانحياز الكامل من جانب القوة العظمى ولتهديد أطراف إقليمية كإيران وحزب الله شددت على عدم رغبتها في التورط في مواجهات عسكرية مع إسرائيل. هي تصريحات فارغة من المضمون، ثالثا، لكونها خرجت على استحياء شديد من بعض رؤساء ووزراء خارجية الغرب ووضعت «كجمل اعتراضية» بين متواليات التشديد الزائف على حق إسرائيل في «الدفاع الشرعي» عن النفس وحقها في «العمل العسكري» لتحقيق الأمن لمواطنيها. يزيف المسؤولون الغربيون الوقائع حين يدعون أن الانتقام والعقاب الجماعي وقتل الآلاف من أهل غزة يمثل دفاعا شرعيا عن النفس وحين يرادفون ببراءة كاذبة بين وحشية آلة القتل الإسرائيلية وبين أعمال عسكرية تقوم بها جيوش الدول المسؤولة للحفاظ على أمنها.
غير أن المسؤولين الغربيين يمارسون زيفا يتجاوز تصريحاتهم الفارغة من المضمون ويرتبط بمضامين أخرى تحتل موقع القلب في السياسة الغربية تجاه قضية فلسطين.
فمن جهة، يرفض الغرب أن يقر للشعب الفلسطيني حقوقه الأساسية المتمثلة في تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعودة اللاجئين (أو خليط من العودة والتعويضات) ويصنفها كحقوق يمكن التحايل عليها والتنصل منها والامتناع عن العمل على وضعها موضع التنفيذ وهو ما يعيش معه الفلسطينيون دون انقطاع منذ النكبة في 1948. ومن وراء ممارسات الرفض والتحايل والتنصل تقف نظرة الحكومات الغربية إلى الشعب الفلسطيني كبشر من الدرجة الثانية يمكن فيما خصهم قبول حياة التهجير المتكرر واللجوء الدائم والانتقاص الممنهج من حقهم في الحياة الآمنة والكريمة بفعل عنف إسرائيل ووحشية آلة قتلها.
ومن داخل النظرة الاستعلائية والعنصرية صمت الغرب على جرائم وانتهاكات حكومات إسرائيل المتعاقبة، وتجاهل سياسات وممارسات الفصل العنصري التي تورطت وتتورط بها تجاه الفلسطينيين، ولم يرد تنفيذ مقررات الشرعية الدولية فيما خص إنهاء الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية والحصار على غزة. لذلك، لم تهتم لا الولايات المتحدة ولا أوروبا طوال السنوات الماضية برعاية مفاوضات سلام حقيقية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بغية الوصول إلى تطبيق حل الدولتين، واعتبرت أن تقديم بعض المساعدات الإنسانية والاقتصادية للأراضي الفلسطينية المحتلة يغني عن إنهاء الاحتلال وتحقيق التسوية السلمية، وقبلت الانتهاكات الإسرائيلية عنفا ممنهجا واستيطانا إجراميا في الضفة والقدس وعدوانا عسكريا متكررا وحصارا ظالما على غزة.
يزيف المسؤولون الغربيون الوقائع حين يدعون أن الانتقام والعقاب الجماعي وقتل الآلاف من أهل غزة يمثل دفاعا شرعيا عن النفس
من جهة أخرى، ولذلك أيضا، لم تجد الحكومات الغربية في الأيام الأولى للحرب على غزة أدنى درجات التحرج من التماهي مع الخطاب الرسمي الإسرائيلي الذي صنف الفلسطينيين بعنصرية فاضحة «كوحوش بشرية» و«حيوانات بشرية» وأطلق عليهم من ثم نزوعه الانتقامي المفزع وآلة قتله المتفلتة من كل قيد، ولم تفكر كثيرا قبل تبرير العدوانية والانتقام والعقاب الجماعي كدفاع شرعي عن النفس من قبل إسرائيل بعد أن هاجمتها حماس ومن تمرير إنزال القتل والدمار بغزة بحجة حماية الأمن الإسرائيلي.
لو لم تكن عنصرية الغرب تجاه فلسطين وتصنيف شعبها كبشر من الدرجة الثانية حاضرة ومتمكنة من مفاصل الحكومات والمعارضات والمجتمعات المدنية والفضاءات العامة، لكان رؤساء الغرب ووزراء خارجيته قد اكتفوا بالإدانة المستحقة لاعتداءات حماس على المدنيين الإسرائيليين ولربما برروا شيئا من ردود الأفعال العسكرية ضد حماس والفصائل المسلحة الأخرى دون الترويج للعقاب الجماعي ولما كانوا قد صمتوا لأيام على المقتلة الدائرة وعلى الحصار المطبق بقطع المياه والكهرباء والغذاء قبل أن يستفيقوا على المنظمات الدولية الإنسانية تدق نواقيس الخطر بشأن الكارثة الواقعة في غزة وعلى أصوات الشعب الفلسطيني تطالب بشيء من الحماية والعدالة وعلى مواقف الحكومات العربية المطالبة بكف يد إسرائيل عن أهل غزة.
لو لم تكن عنصرية الغرب تجاه فلسطين حاضرة ومتمكنة من مفاصل الحكومات والمجتمعات، لما تجاهل قادة الغرب حقائق الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري والحصار التي أفضت إلى انفجار الداخل الفلسطيني ولتحدثوا عن ضرورة العودة إلى عملية سلام شاملة على أساس حل الدولتين ولربطوا بين غياب الأفق السياسي وبين دوائر العنف المتكررة بين إسرائيل وفلسطين. ولولا العنصرية الغربية، لما خرج الرئيس الأمريكي جو بايدن على الرأي العام العالمي مروجا لأكاذيب ذبح حماس للأطفال ومرددا لمقولات عن وحشية حماس دون إشارة واحدة إلى جرائم الاحتلال والمستوطنين المتطرفين قبل الحرب وجرائم الحرب الإسرائيلية خلال الأيام الماضية.
من جهةٍ أخيرة، يمكن تصنيف الغرب للفلسطينيين كبشر من الدرجة الثانية تظل سياسات وممارسات الفصل العنصري تجاههم داخل إسرائيل وفي الأراضي المحتلة مقبولة تجاهلا وصمتا وتظل حياة الشتات ومخيمات اللاجئين تليق بهم تحايلا على مقررات الشرعية الدولية ويظل التنصل من حقهم في تقرير المصير قائما دون تغيير، يمكن هذا التصنيف العنصري المقيت الحكومات الغربية من منع التظاهرات والتجمعات السلمية للفلسطينيين التي تنظم دفاعا عن أهلهم في غزة وطلبا لوقف العدوان الإسرائيلي وللامتناع عن ارتكاب مزيد من جرائم الحرب والتهجير والعقاب الجماعي ومناداة بحل لقضيتهم العادلة.
يمنع الغربيون تظاهرات وتجمعات سلمية ويستخدمون أدواتهم الأمنية لقمعها بعنف وترهيب المشاركات والمشاركين بها بينما يصمتون عن الوحشية الإسرائيلية لكونهم لا يرون بعنصريتهم في الفلسطينيين، ومعهم في لحظات الحروب وحين تحدث المقتلة مجددا العرب والمسلمين وبعض اليسار التقدمي الغربي، سوى بشر من الدرجة الثانية عليهم الامتناع عن إزعاج المجتمعات الغربية بتظاهراتهم ولا يحق لهم تشويه مشاهد التأييد الكاسح لإسرائيل من قبل حكومات الغرب على الرغم من الجرائم والوحشية وليس لهم أن يتدخلوا كمواطنين لدولهم الغربية في مناقشة مواقف وسياسات الحكومات التي يفترض أن تمثلهم. فذاك حق محفوظ فقط للبشر من الدرجة الأولى، والفلسطينيون ونحن معهم في قراءة الغرب العنصرية لسنا وبغض النظر عن بطاقات هوياتنا سوى لاجئين دائمين ومن ثم بشر من الدرجة الثانية لا دخل لنا لا بالسياسة ولا بالقضايا الكبرى وعلينا عدم تجاوز مقتضيات المتابعة الصامتة لتقتيل أهلنا في غزة من قبل إسرائيل وللمساعدات الغربية وهي تنهال عليها وللقطع العسكرية الغربية وهي ترهب وتهدد فلسطين ومن حولها.
لكل ظلم نهاية.
كاتب من مصر