كأن التاريخ أعاد نفسه من جديد في أفغانستان، من دون أن يدري، وعلى سيناريو المهزلة أيضاً. في الأمس سايغون، واليوم كابول… يجمعهما انسحاب على عجل، وطائرات هيليكوبتر ومطار، بل استعادت صحف أمريكية رواية» أشباح سايغون» البوليسية في الأيام السابقة، مع صور التعلّق بسلالم المطار والطائرات التي تكاد تكون نفسها.
لقد تحررت تلك البلاد من العبء البريطاني في يوم كالغد، التاسع عشر من آب/أغسطس 2019، ولم تكن مستعمرة أبداً بالمعنى التقليدي، بل متعاقدة على مبادلة تسليم أمور السياسة الخارجية، مقابل الحماية. وتعزّز مسار تقدمي بعد ذلك، في علاقة خاصة ومدٍّ وجزر مع الاتحاد السوفييتي منذ أيام فلاديمير لينين، وظروف سمحت بقيام عدة أحزاب اشتراكية وشيوعية كذلك، انقلبت على آخر رئيس حكومة إصلاحي ومتفتح، محمد داود خان، لم يعجب ليونيد بريجنيف الجبار حين قابله في موسكو وطلب الانفراد به، حين تكلّم معه بنديّة واستقلالية نسبية لم يكن الزعيم السوفييتي معتاداً عليها، خصوصاً مع دولة صغيرة على أطراف الاتحاد السوفييتي وتحت جناحه.
وربّما قرر بعد ذلك الاجتماع ضرورة إنهاء تلك الحالة، ولو عن طريق الاحتلال المباشر، كما حدث بالفعل بعد وقت قصير في عام 1979، العام الذي افتتحته الثورة الإيرانية وبدء حكم الخميني. اغتيل داود خان ومعظم أسرته خلال انقلاب قام به أعضاء في حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني. وحدث ذلك بعد أن قامت السلطة بملاحقة قادة فصائل ذلك الحزب، نور طرقي وحفيظ الله أمين وبابراك كارمال، فاعتقلت الأول ووضعت الثاني تحت الإقامة الإجبارية، وهرب الثالث إلى الاتحاد السوفييتي. قاد أمين عملية انقلابية ناجحة نفّذها أنصاره في الجيش وهو في مكان احتجازه في بيته. ومرّت سلسلة انقلابات تداول فيها السلطة أولئك الزعماء الثلاثة، الذين لم يكن الغرب يفرّق بينهم، ويعتبرهم جميعاً عملاء للاتحاد السوفييتي. وكانت كل العوامل تخدم تلك الفكرة وتعززها، حتى صارت جليّة، تعطي انطباعاً بأن السوفييت سيصلون إلى المياه الدافئة من تلك الجهات.
فشلت أمريكا في أفغانستان، ولم تستطع المساعدة على تشكيل إدارة ذات كفاءة، ولا جيش حقيقي، لتمنع خطر التطرف أو عودته
وجد الأمريكيون ضالّتهم في فصائل» المجاهدين» السبعة آنذاك (مع إغفال تأسيس القاعدة وحقائق دعمها) الذين نظّموا أنفسهم من خلال الحديقة الخلفية في باكستان وبشكل سري في البداية، وابتدأ الدعم يتعاظم على أساس مبدأ ريغان، حتى وصل مجموع فواتيره إلى أكثر من 20 مليار دولار، وآلاف صواريخ ستينغر الفعالة ضد الطيران، التي أصبح استرداد ما زاد منها أمراً بالغ الصعوبة والكلفة في المستقبل. وانسحب السوفييت أخيراً بعد دفعهم لكلفة باهظة، تحدثت عنها لاحقاً الرواية التوثيقية الروسية» فتيان الزنك» في إشارة إلى التوابيت التي تواردت بتواتر كبير إلى الاتحاد السوفييتي، وكان لتلك التوابيت دورها في انهياره في ما بعد. في حين احتدمت صراعات المجاهدين حتى حسمت طالبان، وباكستان وراءها الأمر، وتأسست» الإمارة الإسلامية» التي عاشت «القاعدة» في كنفها، ثمّ قامت بغزوتها الكبرى في أيلول/ سبتمبر 2001.
تحرّكت عوامل الانتقام مباشرة لتغزو الولايات المتحدة وحلفاؤها، أفغانستان، ثمّ العراق بعد ذلك بعامين. وبدأت مهمة طويلة هناك، ستبلغ العشرين عاماً في 11 سبتمبر القريب، إضافة إلى عملية دعم «المجاهدين»- كما ظهر اسمهم من يومها في الأوراق الأمريكية – التي ابتدأت بشكل متواقت تقريباً مع «الثورة الإسلامية» في إيران، وبداية حكايتها الدرامية الخاصة. فشلت الولايات المتحدة عملياً في إحداث التغيير الذي قيل إنها تهدف إليه في أفغانستان، ولم تنتج جهودها إلّا دولة ضعيفة فاسدة (قبل أسفل قائمة استشراء الفساد عالمياً ببضع دول وحسب) ولم يصل الجيش الحكومي الذي دربته وموّلته إلى مستوى يستطيع فيه مقارعة طالبان، ولا الوقوف في وجهها بشكل جدي، كما نرى في هذه الأيام. ولم يمنعها ذلك الحال من متابعة سياساتها التي تريد تقليص نشاطاتها العسكرية الخارجية، وابتدأت بسحب قواتها عملياً من هناك. ظهر التشابه واضحاً مع صورة الانسحاب من فيتنام، ومع وجود مباحثات واتفاقات للحل السياسي، في قلب» دربكة» فظيعة وارتباك في استباق دخول سايغون – كابول- من قبل»مجاهدي» القوات الشيوعية الشمالية. ويرتبك المسؤولون في البنتاغون والخارجية الأمريكية أيضاً هذه الأيام أمام سؤال إخلاء الطريق لطالبان نحو كابول، ويحتارون في تقدير الزمن اللازم لذلك، هل هو بضعة أسابيع أم بضعة أشهر.
تسحب الولايات المتحدة عسكرها من أفغانستان والعراق، وربّما تلحق سوريا بهما، وصولاً إلى الخليج وباقي مناطق العالم. هو «الانطواء على النفس» والاهتمام بها، ربّما من أجل حصر وتقليل الخسائر البشرية والمادية، وتركيز الاهتمام على الاقتصاد، الذي كان ميداناً مفتوحاً للصين منذ عقود، حتى أصبحت خطراً داهماً على الغرب في هذا الميدان. وهنالك ضرورة لإعادة النظر في قواعد الاشتباك الدولي، ليس مع الصين وحدها، بل أيضاً مع روسيا، التي تقاوم بشراسة مفاعيل العقوبات، وتحقق مكاسب ونقاطاً في أكثر من مكان. يعيد تقدّم طالبان الحاسم تشكيل لوحة في تلك المنطقة، سوف يكون لها تأثير مهم في المشاريع الصينية، التي طالما كانت تتقدّم باستمرار. من ذلك ما سيكون من تشويش على مشروع «طريق الحرير الجديد» وعلى سياسات الصين الإسلامية الداخلية، لتغدو أفغانستان اسماً لنوع الصداع الجديد للقيادة الصينية، الصارمة في سياساتها وتقدمها الدولي في الوقت نفسه. ولم تتأخّر روسيا – بوتين باستلام الرسالة واستيعاب المغزى، فنفّذت تدريبات عسكرية مشتركة مع جيوش أوزبكستان وطاجيكستان على الحدود مع أفغانستان، التي وصلت إليها طالبان منذ أيام وتتابع تعزيز وجودها هناك. يحدث ذلك لأن الروس يتلمّسون خطراً «جهادياً – إسلامياً» يصل من طالبان «المنتصرة» عن طريق جمهورياتها السوفييتية – الإسلامية السابقة، الدائرة في فلكها. وهنالك جارة أخرى، إضافة إلى الصين وروسيا، في إيران الإسلامية – الشيعية. فهذه لها علاقات مذهبية مع شيعة الهزارة في أفغانستان، الذين يشكلون 19% من تعداد سكانها، ولها علاقات «طيبة» مع طالبان، وغالباً مع منظمة «القاعدة» أيضاً، لذلك تشكّل إيران طرفاً يتلقى التغييرات بترحيب، ولو أنه متحفظ وحذر قليلاً، فالصورة المهتزة هناك سوف تبقى مصدر قلق، وسوف تتجسّد غالباً في مشاكل في ما بعد، تجبر حكومة خامنئي والحرس الثوري على تحويل أنظاره إلى»الخَلْف» بعيداً عن جهته المفضلة نحو العراق، فسوريا ولبنان، و»مواجهة إسرائيل» على الأقل بوصفها مصدر تغذية بالطاقة والحرارة لنظامها المعتمد على الإثارة وتصدير القلق والتوتّر. كما تحتار الجارة الشرقية المباشرة الشقيقة الأكبر: باكستان، بين جناحها الإسلامي في المجتمع، وجهاز المخابرات الأكثر قوة في الدولة الذي يتاجر بنجاح منذ عقود بالتيارات الجهادية المعنية، وجناحها المدني الذي يركّز اهتمامه على الأزمات الاجتماعية الاقتصادية، ولا يحتاج إلى مصادر توتير لداخله، يضيف إلى الصعوبات والأزمات الراهنة.
قد تكون تلك الدوّامات المحتملة من مبرّرات الانسحابات الأمريكية، كما يريد بعضنا أن يرى؛ ولكنها كلّها ثانوية أمام المتطلبات الانتخابية والصراع الداخلي، وبرنامج تقليص الاهتمام بالنشاط العسكري الخارجي. الانسحاب هدف قائم بذاته، ولو تمّت إحاطته بأحاديث عن استراتيجيات تتعلّق بالاحتواء، أو الإغراق أو التوريط وغير ذلك. ليندسي غراهام من جهة ورئيس الأركان من جهة أخرى حذّرا من عودة «القاعدة» للحياة والنشاط، وفي ذلك فشل ذريع للحرب على الإرهاب كما سُمّيت في أيّام عزّها، وخلق أرضية خصبة لنموّه التالي هناك، واكتسابه زخماً في أكثر من مكان. ومع ذلك يبقى من باب التزيّد الحديث عن «مؤامرة» تتضمّن إعادة طالبان إلى السلطة هناك.
في العراق قد تنتج عن انسحاب غير مدروس، ولا يؤمّن بدائل كافية لمواجهة هجمة قوى التطرّف الشيعية والسنّية داخلياً آثار وخيمة تنعكس على طموحات العراقيين وآمالهم التي بعثتها احتجاجاتهم الناجحة الفعالة وحكومة الكاظمي كما تنعكس على موازين القوى الإقليمية والدولية. وفي سوريا – أيضاً- قد يكون لانسحاب- لم يرد بعد أو لم يصل إلى سمعنا- نتائج مريعة ستؤثر سلباً في الناس، وحتى في التوازن واستقرار الخطوط الفاصلة اللذين قد استقرّ أمر القوى الفاعلة في سوريا عليها. تحضيراً لتخميد قد يطول قبل العودة إلى جهود التسوية السياسية والسلام.
أطبقت طالبان على كابول ذاتها، وتغيّر موضوع ومحتوى وأهمية مؤتمر الدوحة، وهي ستحاول ربّما تجميل وجهها القديم من خلاله، وإشغال العالم عن ذكرى تفجير تماِثيل باميان. العالم يختلٌّ مع اختلال السياسة الأمريكية وتقلّباتها الدورية، وها هي قد فشلت في حملتها الأفغانية التي استمرت عقدين من الزمان، لم تستطع فيهما المساعدة على تشكيل إدارة ذات كفاءة، ولا جيش حقيقي، لتمنع خطر التطرف أو عودته!
كاتب سوري
شكرًا أخي موفق نيربية. برأيي أن الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان يتطابق مع إستراتيجية أمريكية لجعل أفغانستان في مواجهة مع تقدم الصين نحو الغرب ومصدر قلق من جهة ثانية لإيران. هذا يافق مع خطة بايدن بعدم التراجع عن قراره رغم الأخبار المتسارعة حول سقوط كابول. طبعًا يمكن النقاش هل هو إنسحاب أم خسارة حرب أمام طالبان، لكن على جميع الأحوال فالتشابه مع سياغون يبدو أنه ظاهري بل يام ترويجه من الإعلام الغربي للتغطية على أنها خطة مدروسة للسياسة الأمريكية. فاهم الأمريكان انسحبوا من العراق وبقيت الحكومة التي أتى بها الإحتلال ولم يحدث شيء يذكر في العراق! ولا سايغون ولاهم يحزنون!