عن عيش أكثر وتدين أقل!

حجم الخط
0

نحن في الأيام التي سبقت عام 1975، بداية الحرب، حين كانت الطوائف تختبر إمكان تعايشها معا. أتيح للشيخ عبد الرحمن الشاب القادم حديثا من النجف، أن يجاور عائلتين مسيحيتين، حيث حل في المدينة الساحلية الصغيرة. كانت العائلتان قد نزلتا هناك نزوله نفسه: لهداية الرعية وتدبير شؤونها. كان الشيخ عبد الرحمن منفتحا في خوضه السجالات مع كل من القسيسيْن، الإنجيلي والبروتستانتي، ومدركا لحدود التلاقي والاختلاف بين الدينين، رغم اعتقاده أن «نقاش الأديان عبث لأن كل دين يرتكز على أسرار حميمة وخاصة لا تعني شيئا إلا للمؤمنين به».
لكن الشيخ لم يلبث أن وجد نفسه في صحبة الأبناء تاركا القسيسين قابعين في مدارسهما وكنائسهما. كان شيخا مختلفا، ممارسا للمهارات اليدوية التي تختص بالكهرباء والنجارة وكل ما تحتاجه البيوت، وكان، بخلاف ظن المسيحيين عن رجل الدين المسلم، يرتدي المايوه وينزل للسباحة في البحر. أعجب به هؤلاء، وأولهم أنطوان الشاب ابن القسيس البروتستانتي المحب للشعر والمنشغل بعلاقاته النسائية العابرة مع ثلاث نساء أو أربع نساء من المقيمات حوله، وبينهن غرايس ابنة القسيس الآخر.
كان يمكن للرواية أن تستمر في مجالها المحدود، لكن الثري بما تحمله ملاحظاتها الدقيقة عن الفوارق بين المجتمعين المتعايشين، لكن سرعان ما داهمتها الحرب. كان على العائلات الثلاث أن تفترق وأن تتباعد. الشيخ بقي في «واصل» مع أمه، والعائلتان المسيحيتان انتقلت إحداهما إلى جونية والأحرى إلى الأشرفية في بيروت. أمور كثيرة ستحدث بينها احتمال ألا تستمر العلاقة الغرامية التي نشأت بين الشيخ وغرايس ابنة القس سليم. كان المحبان قد تجاوزا بسلاسة الموانع التي حال انفتاح المحيطين بهم، دون أن تكون في نطاق المحرمات. وكان على الشيخ ومعشوقته أن يديما بقاء علاقتهما وهما بعيدان تفصل بينهما حواجز الحرب ومناطقها المتباعدة. هو الشيخ المتصالح مع نفسه حيث، بخلاف ما كان عليه القسيسان، «لا يرهقه إيمانه ولا يدميه بالأسئلة» كان يتصرف متخففا من ثقل جبته وعمامته، فنقرأه، فيما هو يكلم محبوبته أو يحتضنها، أو يقبلها، كأنه تخلص من هيئته كرجل دين فنراه، أو نتخيله، مرتديا تي شيرت عاديا.

كما أنه بدا غريبا عما يمكن أن يمليه عليه لباسه حين جعله يبدو رجلا عاديا في مشهد جماعه مع غرايس التي جاءت من سكنها البعيد قاصدة أن تمارس الغرام معه. في جميع المشاهد تلك، المروية بلسان الشيخ، بدا كل تفصيل كأنه يضع قارئه في حيز الغريب والمستهجن. كل حركة تقوم بها اليد وكل اسم للثياب التي ينبغي خلعها أو إزاحتها لتتمكن اليد من الوصول إلى حيث تقصد، يراكم تلك الغرابة. في المجال الغريب والحرج أدار عباس بيضون روايته دون أن يشعرنا بأن خوض الغمار يلازمه حدوث ردود فعل ومفاجآت. كأنه وقع على أفراد مثاليين، وعائلات مثالية، يمكن معها أن تُخترق الممنوعات بلا ضجيج. الجميع يدون قابلين بما يحدث بين الجميع. عائلة غريس، والده القس ووالدته، لا يحملون أيا من الصفات التي يمكن أن نتوقعها. كأننا في مجتمع حر، يمكن لأنطوان العاشق فيه أن يتنقل بين الفتيات الثلاث أو الأربع، وكل منهن عالمة بما يجري. احتمالات إقامة العلاقات مفتوحة وقائمة بصرف النظر عن الغيرة والتحفظ والرفض الشخصي والاجتماعي.
الحرب هنا عنيفة وقاسية في عناوينها العريضة حسب. لم تصل عدوى الكراهية والضغينة إلى أي من الشخصيات في الرواية. صحيح أن رمزي شقيق أنطوان تطوع للقتال في صفوف الكتائب، وقتل في إحدى معاركها، ومثله فعل محمود شقيق الشيخ وقد لاقى المصير نفسه بعد انتسابه إلى منظمة العمل الشيوعي، إلا أن الحدثين لم يؤديا إلى فاجعة في ما تلا من حياة تلك الشخصيات. لكن في الملاحظات التي يقولها الشيخ هناك على الدوام ما هو من قبيل الكشف، في حواراته مع القسيسين حول الدين، أو الدينيين، يعلق قائلا: «حين كنا نقول الله فإننا نعني خفية الموت». غرايس أيضا تقول عن اختلاف الشيخ اللانهائي، إنه جعلها أشبه باللا أحد: «ليس دينه وحده المختلف، لباسه وسحنته ونبرة صوته ولهجته تختلف». وفي فصل الرواية الختامي نقرأ، بلسان أنطوان، وقد هجر الحرب بعد أن سبق له التورط فيها منصرفا إلى الشعر والتأمل، نقرأ ألأفكار الأكثر عمقا وكشفا عما هو الشعر، والتأمل أيضا. إنها عين عباس بيضون الرائية والمفكرة تلك التي تميز معظم كتاباته الروائية.

رواية عباس بيضون «حائط خامس» صدرت عن دار نوفل- هاشيت في 186 صفحة سنة 2022.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية