دار في الماضي جدلٌ حول الهوية والمدى الأساسيين للقضية الفلسطينيّة. بعض من هذا الجدل يكشف عن سرابه في محنة الحاضر.
فقد وجد من نظر إليها بوصفها قضية تعني شعباً بعينه، الفلسطينيّون، قبل أي اعتبار آخر. سواء قيل بتشكّل هذا الشعب قبل النكبة، بل قبل نشوب الصراع مع الحركة الصهيونيّة، أو أقرّ للنكبة بدور تأسيسيّ لهذا الشعب في نفس لحظة اقتلاعه من أرضه وتوزيعه داخل وخارج «الخط الأخضر» وما بين وطن وشتات، وقد تسلّل المصطلح الأخير من معجم «المسألة اليهودية» إلى تعريف المسألة الفلسطينية.
أقل الإيمان الإقرار، بأننا لم نعد نعيش اليوم في العصر الذهبي للنزعة «الكيانوية» من تاريخ القضية.
ووجد من أعاد المسألة إلى قضية قومية. هذا يقول لك بأن الوحدة العربية هي السبيل لتحرير فلسطين، وذاك يقلبها، بأن تحرير فلسطين هو السبيل لتحقيق الوحدة. وهناك من نظر إلى فلسطين على أنها قضية جنوب غرب بلاد الشام، أو جنوب غرب سوريا الطبيعية، وقارن بينها بين قضية توأم لها: الإسكندرون السليب.
أيضاً، لا يمكن تلمّس عودة الروح لقومية القضية، إلا في نطاق «نخبوي».
وفي مقابل كل من الوطنية الكيانية الفلسطينية، والقومية عربية كانت أو إقليمية سورية، خرج من يزكي بصددها الإطار الواسع، من حيث هي قضية يفترض أن تعني المسلمين جميعاً، طالما أنّ الهجمة الصهيونية هي استمرارية للحملات الصليبية في الحرب على الشرق المسلم: وهذه إحالة تنازعها القائلون بقومية الصراع مع القائلين بدينيته، أو بحضاريتيه ذات السمة الدينية.
بهذا المعنى تكون القضية محطة في إطار أربعة عشر قرنا من الصراع بين الحق والباطل، ويكون هذا الصراع قد بدأ مع بني نضير وقينقاع وقريظة من يهود يثرب في سنواته الأولى، ثم انتقلت الصدارة إلى المواجهة الألفية مع المسيحيين، من روم وفرنجة وروس وفرنسيس وانكليز، قبل أن يعود الصراع الديني الحضاري إلى صباه، مع اليهود مرة جديدة!
أما من رفض إسلاموية الصراع والقضية، ولم يجد في كيانيتها الفلسطينية ما يكفيه أو في رباطها القومي ما يروق له فقد أخذ يكثّف بدلاً من ذلك من الطابع «الأممي» للقضية، سواء بنفس «عالمثالثي» أو بنفس «إنسانوي» أعمّ.
لم يكن هذا التنقل بين كيانية وعروبية وإسلاموية وإنسانية القضية الفلسطينية عبثياً ومزاجياً ليس إلا، وإن تخلّله العبث الكثير.
فالتشديد على «كيانية» القضية كان في جزء منه ردّة فعل على متاجرة الأنظمة العربية بها، أو تهاونهم حيالها، أو انعدام فعاليتهم بشأنها، ناهيك عن اجتماع «حب فلسطين» مع «كره الفلسطينيين» تحت رايات العروبة.
أما التشديد على إطارها القومي العربي فطفق يبني على الاحتضان العربي، المصري – الناصري بخاصة، لحرب التحرير الوطنية الجزائرية.
ففي عقد الستينيات من القرن الماضي، وجد العرب بالفعل في بدايته، أن استعماراً استيطانياً (فرنسياً) يُفكّك بنجاح في الجزائر وآخر إسرائيلي يتوطد بعد أكثر في فلسطين بعد حرب 67.
عام 1954 كان عدد الفرنسيين وعموم الأوروبيين 192 ألفا في الجزائر العاصمة، في مقابل 162 ألف مسلم، بحيث اعتبرت الجزائر العاصمة رابع المدن الفرنسية عدداً.
بعد عشر سنوات انقلبت الحال بشكل مطلق. وبعد أن تعنتت فرنسا طويلاً في الدفاع عن «الجزائر الفرنسية» كامتداد جغرافي مستحق لها، أخذ اليمين المتطرف يحرّك فيها فزّاعة «فرنسا الجزائرية».
لماذا كتب النجاح في عملية تفكيك المجتمع الكولونيالي الفرنسي في الجزائر في مقابل تمكن المجتمع الكولونيالي بإسرائيل من تثبيت نفسه؟ هذا السؤال أظهر بالتتابع قوة الحساسية القومية العربية وضعفها.
قوتها حين استطاعت المقارنة بين حال الجزائر وبين حال فلسطين، وضعفها حيثما لم تستطع إعمال التمييز بين هاتين القضيتين.
في التجربة الاستعمارية الفرنسية للجزائر، قام المستعمر بفصل يهود البلاد عن عربها وأمازيغها ومنحت الجنسية لهم. وحين جرى تفكيك الاستعمار الاستيطاني رحل الفرنسيون ومعهم اليهود البلديّون، سواء الى فرنسا أو إلى إسرائيل.
لماذا كتب النجاح في عملية تفكيك المجتمع الكولونيالي الفرنسي في الجزائر في مقابل تمكن المجتمع الكولونيالي بإسرائيل من تثبيت نفسه؟
وفي التجربة الاستعمارية – الاستيطانية التي ارتبطت بإقامة إسرائيل تشكل مجتمع يهودي في بضعة عقود من المهاجرين القادمين من شرق أوروبا، وبمعظمهم من مناطق كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية، ومن اليهود القادمين من البلدان العربية والإسلامية.
عدم القدرة على الخوض في «المسألة اليهودية» جعل القوميين العرب غير قادرين على التمييز بين مساري الجزائر وفلسطين.
«الكيانية الفلسطينية» عمدت بدلاً من ذلك إلى ما هو أكثر فطنة. تلبّست «المسألة اليهودية». استعادت بشكل أو بآخر، ثنائية «الأرض والمنفى» من أشعار وأقاصيص شمويل آغنون وحاييم بياليك. رأت في «المخيمات» طوراً جديداً من المعاناة، يرث طور «الغيتويات».
لكن لغة التماثل هذه لم تستطع التعويض بالرمز، ولا وهي تتغنى بالبراغماتية، عن التفاوت التي يحول بينها وبين مقارعة أو تهديد الصلة العضوية بين الصهيونية وبين الإمبريالية. هذا في مقابل «يتم» القضية الفلسطينية و«تبعثرها». أي اضطرارها طول الوقت للتكيف مع أنظمة إما تحب فلسطين لا الفلسطينيين، وإما تضيق بالأرض والشعب معاً.
إسلامية القضية كانت ترى في المقابل ما كابر عليه الكيانيّون والقوميّون. الدائرة الحضارية للمدّ والجزر في الصراع على ضفاف المتوسط بين الإسلام وبين أوروبا المسيحية، ثم إخراج أوروبا «ما بعد المسيحية» للناجين من يهودها من التهلكة، وتسهيل أمر إقامة دولة عازمة على تحويل الرابطة الدينية اليهودية إلى رابطة قومية دون قطع حاسم مع الديني، بل إدارة الالتباس والازدواجية بشأنها.
بالغ الكيانيون والقوميون في المكابرة على البعد الديني للصراع، فبالغ الإسلاميون في المقابل في إثارة هذا البعد. مشكلتهم تبدأ من أنهم تخيّلوه بعداً تعبوياً بامتياز. كفيل بأن يحرّك عشرات ملايين المسلمين للجهاد في سبيل فلسطين.
هذه التعبئة الإسلامية الكبرى من أجل فلسطين لم تحدث. فقد شكّل الحلم بالزحف الكبير لأمة المليار ونصف مليار نسمة لتحرير فلسطين استكمالاً في دنيا الخيال للانتظارات «الاستشراقية» التي تبدأ ببونابرت في مصر وتتوج بفيلهلم الثاني في برلين.
إبان حملته على وادي النيل فعكا تخيّل بونابرت أن منطلقات التنوير والثورة الفرنسية حين تتصالح وتتآلف مع دين الفطرة والعقل الذي هو الإسلام يمكن أن يجر ذلك الشعوب الإسلامية من مصر حتى الهند لملاقاته، والإسهام معه وتحت قيادته في تأسيس إمبراطورية هجينة إسكندرانية جديدة، تفتح الشرق على مصراعيه له، وتتيح من ثم طرد الإنكليز من الهند ومن آسيا.
وبعده، أيام الحرب العالمية الأولى، اعتقد القيصر الألماني هو الآخر أن تحالفه في هذه الحرب مع الباب العالي، واستحواذه، بمعية «تركيا الفتاة» على طغراء الخلافة، كفيل بتوظيف مشاعر الجامعة الإسلامية في طول الشرق وعرضه، وبين مسلمي الهند ومصر المستعمرتين بخاصة، لصالح ألمانيا، في مواجهة الإنكليز.
لكن الجامعة الإسلامية هذه لم تتحرك يوماً على نحو تعبوي كامل في التاريخ الحديث. خرجت الجماهير في مصر بعد الحرب الكبرى، تطالب بالاستقلال، وخرج المسلمون في الهند مطلع العشرينيات تحت شعار حماية الخلافة العثمانية. لكن الخروج الإسلامي الكبير تحت شعار «يا مسلمي العالم اتحدوا» على غرار «يا عمال العالم» لم يحدث.
لقد انوجد الرهان على أن الحلم المتعثر حكماً عند بونابرت وفيلهلم في رؤية المسلمين جميعاً يقفون كقومة رجل واحد، سوف يتحول إلى حلم قادر حين يمرّ في خاطرة المسلمين قبل سواهم. جاءت ثورة الخميني نهاية السبعينيات لتعطي لهذا الرهان زخماً غير مسبوق: الإسلام بوصفه قوة تعبوية، ثورية، مزلزلة. بوصفه خطاً جماهيرياً يبني على وزن ديموغرافي ضخم ويقترن باستعداد قتالي ملحمي يخوض المعركة بحسابات الآخرة قبل الدنيا.
لكن هل هي كذلك حال العالم الإسلامي اليوم؟ لا يمكن القول إن «إسلامية الصراع» تعيش أفضل أيامها، خاصة وأنها تتداخل مع مذهبته، ومع الاختلاف العميق في النظرة لإيران ونفوذها في الإقليم. مع ذلك، إسلامية الصراع تبدو أكثر «حضوراً» من عروبيته وكيانيته الفلسطينية الصرف في عالم اليوم، حتى وهي تحضر بطيفها وتشطح وتطيل.
وفي مقابلها، أو بالتزاوج معها، هناك من يتلفت أكثر لزيادة منسوب «أممية» وكونية الاحتضان للقضية الفلسطينية، وفي البال جنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية والحراك التضامني مع فلسطين في الغرب.
يبقى أن التناقض بين البعدين «الملّي» و«الأممي» للقضية ليس من جملة ما يمكن طمسه برغبة ولا ارضاؤه بجملة. هذا التناقض، أو قل التوتر، قد يكون من الأجدى التعايش معه، مع الإفلات من أساطير الزحف الكبير من أي مصدر أتت.
كاتب من لبنان