عن كتاب «نهاية اليهود» وكذبة الرئيس الإسرائيلي… حرب غزة التي لم ترحم عاقلاً ولا مجنوناً… ولا طبيباً للعقول

حجم الخط
0

لا ندري إن كنتَ من مستمعي إذاعة إسرائيل يوماً، في عزّ انتشار وطغيان الراديو كوسيلة لمعرفة الأخبار وآخر المستجدات. كان هناك خرافة شائعة أيامها، كخرافات أخرى لا حصر لها من تلك الأزمنة، خرافة تصف إذاعة العدو بالقول: «صحيحٌ أنها إذاعة عَدوّة، لكنها مصدر موثوق للخبر».
من محاسن الميديا الحديثة أنها سهّلت بالفعل تمييز الصحيح من المزيف، مهما بلغت ابتكارات التزييف. فعلى قدر البرامج الماهرة القادرة على الكذب، سيكون هناك طرق فاعلة وعظيمة في مطاردة التزييف.

وعلى أي حال، لا تحتاج فِعلة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى برامج مبتكرة، فكِذبته في مؤتمر ميونيخ للأمن أقرب إلى الفضيحة، عندما رفع كتاباً أمام قادة العالم بعنوان «نهاية اليهود» نَسَبَهُ لمحمود الزهار، أحد مؤسسي وقياديي «حماس»، على أساس أنه يدعو للتخلّص من اليهود، وأنه معادٍ للسامية وخلافه، ليَظهَر تالياً بسهولة أن الكتاب ليس للزهار، بل لشيخ مصري لا يمتّ بصلة لـ «حماس»، وأن الكتاب موجود ومتاح للقراءة في «المكتبة الوطنية الإسرائيلية».

الدعاية الإسرائيلية وصلت إلى حدّ لا يصدق من الإفلاس، وباتت مكشوفة إلى حدّ أن أدواتها الوحيدة هي الكذب، ثم الكذب، ثم مزيد من الكذب، وإن لم يفلح كل ذلك، فبقوة الطائرات والقصف الجوي، أو بقوة اللوبيات

لا ندري أيّ نجاح أصابَهُ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، عندما رفع الأخير أمام شاشات العالم، قبل أسابيع فقط، كتاب «كفاحي» لهتلر، على أنه عُثر عليه في بيوت غزة، وكأنَّ ذلك دليلٌ دامغ على أن أهل غزة يسيرون على هَدْي «كفاحي».  حتى يقتفي الرئيس هرتسوغ أثره.

موضة رفع الكتب الهتلرية، أو الداعية لمعاداة السامية، على حدّ زعم القادة الإسرائيليين، تأتي في وقت نجد فيه تصريحات موثّقة بالصوت والصورة لقادة إسرائيل وهم يدعون إلى إبادة أهل غزة، لا «حماس» وحدها، بالنووي وبالإبادة، والتجويع والدعوة إلى المحو والتهجير طوعاً أو قسراً.

لنفترض أن الزهار يؤمن بالفعل بالسعي إلى «نهاية اليهود»، هل يبرّر ذلك الدعوة إلى إبادة مليونين ونصف من الغزيين، إن لم نقل ملايين الفلسطينيين من ورائهم؟

من الواضح أن الدعاية الإسرائيلية وصلت إلى حدّ لا يصدق من الإفلاس، وأنها باتت مكشوفة إلى حدّ أن أدواتها الوحيدة هي الكذب، ثم الكذب، ثم مزيد من الكذب، وإن لم يفلح كل ذلك، فبقوة الطائرات والقصف الجوي، أو بقوة اللوبيات.

وعلى ما يبدو، لم تكن إذاعة إسرائيل صادقة في تلك الأزمنة السحيقة، فعلى الأرجح كنّا نحن نعاني من كذب الأنظمة العربية، وضيق نشرتها الإخبارية التي لا تأتي إلا بأخبار من قبيل «استقبل الرئيس» و«ودّع الرئيس»، حتى بات يُنظر إلى العدو على أنه أصدق، حتى بات الناس يهربون إلى إذاعة العدوّ.

ميؤوس من الحكيم

«أمضيتُ حياتي المهنية في مجال الصحة العقلية والصدمات المجتمعية في غزة، ولكن حتى ذلك لم يكن ليهيئني للشعور العميق باليأس الذي انتشر في مجتمعنا الآن، ويتخلّل كلَّ شيء». هذا ما قاله الطبيب بهزاد الأخرس لصحيفة «الغارديان» البريطانية منذ يومين.

الطبيب (الحكيم بلغة أدق هذه المرة خصوصاً، باعتباره مختصاً بشؤون الصحة العقلية) هو نفسه نازح في خيمة بعدما اقتُلع من بيته في خان يونس، مذعور، يقف في طوابير المياه، أو يتحدث مع الجيران، متفرّساً في الوجوه: «ما ألاحظه هو أن وجوه الناس أصبحت فارغة من الحياة. إنها أقنعة الخوف واليأس والخدر العاطفي».

ليست ليلة، لنقول «ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلِ بصبحٍ»، إنها أكثر من 130 ليلة لم ترحم عاقلاً ولا مجنوناً، ولا حتى طبيباً للعقول.

«لا أعرف كيف يمكنني الاستمرار عقليًا. لا أعرف كيف أستيقظ في الصباح التالي وأواجه حقيقة أن هذا هو الواقع، وأعيش من جديد كل يوم أصوات القصف وأزيز الطائرات فوق رؤوسنا». يقول الطبيب.

عندما يعجز طبيب العقلية عن الاستمرار، عندما يعجز عن الأمل، الذي يفترض أن تجد الأمل عنده عندما تضيق بك الأحوال، ولو كذباً، عندما يعجز فذلك يعني حقاً أن المأساة قد بلغت الذروة.

كل ما قالته غزة، على ضفّتي الحرب، بل على مختلف الضفاف، لن يقول إلا أمراً واحداً؛ يستحيل ألّا تكون غزة قد غيّرتنا على نحو ما، لا يمكن أن نعود مثلما كنّا من قبل

لكن ليست أصوات القصف وحدها، ولا الفقد وحده، ففي الحرب تفاصيل سيهون أمامها الموت، فغزة اليوم، بمشهدها المروّع، ليست مأساة الراحلين، بل هي محنة من تبقى منهم. نشيح بوجوهنا يومياً عن مشاهد انتشال الجثث والأشلاء من تحت الأنقاض، وتصفعنا في كل ساعة صور الجوع، جموع المحتشدين أمام القدور، الأطفال خصوصاً وهم يواجهون الجوعَ بسخرية، والفقدَ بقوّة وإرادة البقاء والاستمرار.
أما النزوح، الاقتلاع، والعيش في محتشدات فحكايات لا تنتهي، ما يظهر منها بعض البطولات، محاولات الترويح عن الأطفال بالغناء واللعب، لكن للكبار مشاغل أخرى موجعة، كيف بالإمكان شدّ أزر الخيمة، منعها من الذهاب مع الريح والمطر، كيف بالإمكان تأمين رغيف خبز، أو ضمة خبيزة مما أنبتت الأرض، البحث عن شربة ماء، كيف ستتدبر النساء شؤونهن الأكثر خصوصية، في قلب هذا الزحام ومع قلة الحيلة.

نعزي أنفسنا ببعض البطولات التي اجترحها الغزيون للبقاء؛ الدراجة الهوائية لتشغيل ماكينة خياطة أو أجهزة الموبايل، ومراوح صغيرة يجمعها طفل الخيام من بقايا ليضيء خيمة عائلته، عدّائي الطائرات الورقية فوق أماكن النزوح وملاعبه، الأعراس الصغيرة الفقيرة في الخيام، والغناء في الشوارع وعلى عربات تقودها الحمير، لكن ذلك أيضاً لن يكون عزاءً كافياً، فأينما تتلفّت ستصطدم بمأساة ليست في الحسبان، لم تخطر لك يوماً على بال.

كل ما قالته غزة، على ضفّتي الحرب، بل على مختلف الضفاف، لن يقول إلا أمراً واحداً؛ يستحيل ألّا تكون غزة قد غيّرتنا على نحو ما، لا يمكن أن نعود لنكون مثلما كنّا من قبل.

* كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية