كأنما ليؤكد الاستمرارية في نهجه، يواصل وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، في ولايته الوزارية الجديدة، ما واظب على إتحافنا به، طوال السنوات السابقة، من تصريحات عنصرية تجاه اللاجئين السوريين ومطالبات بإعادتهم إلى سوريا، لا تخفى دوافعه السياسية المكشوفة في الانحياز إلى النظام القاتل في دمشق. ما يضفي الخطورة على تصريحات باسيل هو أنها تعبر عن تيار اجتماعي قوي في لبنان لاحظنا تجلياته العملية في أحداث متفرقة كثيرة من حالات اعتداء على لاجئين سوريين، أو إجراءات مؤذية لهم أهمها إرغامهم على العودة إلى سوريا تحت غطاء «العودة الطوعية».
لكن مشكلة اللاجئين السوريين في لبنان هي جزء فقط من مشكلة عالمية تعني جميع البلدان والمجتمعات المعاصرة تقريباً. في عصور أقدم كانت تحدث هجرات جماعية كبيرة في أعقاب مجازر أو حروب أو حملات إبادة كبيرة لقسم من السكان تجمعهم هوية ثقافية معينة. كذلك كانت الكوارث الطبيعية تؤدي إلى حالات نزوح جماعي تستوعبها المجتمعات المضيفة بلا صعوبات كبيرة. أما اليوم فالحدود القومية للدول الحديثة تفرض على الحالات المماثلة صعوبات أكبر. لنفترض، في شروط اليوم، أن زلزالاً عنيفاً ضرب بلداً صغيراً، فدمر كل شيء، ولم يترك أي مساحة قابلة للحياة فيه. المسلك الطبيعي لمن يبقى من السكان على قيد الحياة هو الهروب إلى بلدان مجاورة. ومهما كانت الأحوال الاقتصادية – الاجتماعية أو الإدارية أو السياسية في بلدان الاستقبال، فهي لا تستطيع الامتناع عن استقبالهم. يمكن لتلك البلدان أن تطلب المساعدة في تحمل أعباء استقبال اللاجئين من البلدان الأخرى، فهناك تقاليد ومواثيق أممية تتيح ذلك وتنظمه. ما دمنا في إطار الفرضيات لنفترض أيضاً أن البلد المضيف لم يتلق المساعدات الكافية، أو تلقى القليل منها بما لا يغطي التكاليف الحقيقية لإيواء اللاجئين وتأمين متطلبات حياتهم. سوف ينعكس الإنفاق على تلك المتطلبات على حياة السكان المحليين سلباً، من خلال حرمانهم من جزء من موارد بلدهم. ما هي ردود الأفعال المتوقعة في هذه الحالة؟ سيكون لدينا احتمالان لتصريف غضب السكان المحليين. فإما أن يتجه إلى الحكومة باعتبارها مسؤولة عن سوء إدارة الموارد العامة، أو إلى اللاجئين باعتبارهم سبب تردي أحوال المجتمع المستقبل، أو مزيج من الاثنين، أي أن البعض سيتهم الحكومة بسوء الإدارة، أو بالتساهل في استقبال اللاجئين بأعداد تفوق طاقة البلد على التحمل، في حين سيوجه بعض آخر غضبه إلى اللاجئين مباشرةً، وهذا ما يوصف بكره اللاجئين أو ربما يغطى بغلاف عنصري أو كاره للأجانب. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن كثيراً من البلدان المتجاورة بينها حساسيات قومية أو دينية أو إثنية، تعود جذورها إلى فترات متفاوتة من التاريخ، كان من السهل إيجاد «مبررات» إيديولوجية قابلة للتسويق الشعبي لكراهية اللاجئين وتحميلهم مسؤولية تردي الأحوال العامة بعد قدومهم.
مشكلة اللاجئين السوريين في لبنان هي جزء فقط من مشكلة عالمية تعني جميع البلدان والمجتمعات المعاصرة تقريباً
لا جديد في هذه الافتراضات، فهي جميعاً متحققة اليوم في الواقع. فقط الفرضية الأساس هي المختلفة، أي اللجوء بسبب كارثة طبيعية (زلزال) وليس لأسباب سياسية (حروب) كما هي حال معظم حالات اللجوء في زماننا. ومن المحتمل أن تكون مهمة التيارات المعادية للاجئين أصعب، في فرضية الكارثة الطبيعية، بالمقارنة مع واقع الأسباب السياسية، لأن الطابع الإنساني للفرضية الأولى من شأنها أن تحرم العنصريين وكارهي الأجانب من الغطاء الإيديولوجي المناسب، في ظل هيمنة النزعة الإنسانية في عصرنا، على رغم كل التآكل الذي أصابها. غير أن النفور من اللاجئين لا ينهل فقط من أسباب اقتصادية ـ اجتماعية، ولا تقتصر الأسباب الايديولوجية على تلك المفتعلة، كالقومية أو العنصرية، لإضفاء الشرعية على الأسباب الأولى، بل له بعد ثقافي أيضاً خاضع للجدل، لعل أبرز صوره موضوع «الاندماج».
اللاجئون، بصرف النظر عن أسباب لجوئهم، مطالبون بالاندماج في الثقافة المحلية للبلدان المضيفة، وأول ذلك اتقان اللغة القومية للمجتمع المضيف. ويتم تبرير هذا الطلب، عادةً، بالحفاظ على السلم الاجتماعي وتجنب الاحتكاكات، بمعناها السلبي، بين مجتمع اللاجئين والمجتمع المحلي، بدوافع ثقافية. (إذا أردتم الإقامة في بلدنا عليكم أن تصبحوا مثلنا) هذا هو فحوى مفهوم الاندماج.
أين اختفى، إذن، الاحتفاء بالتنوع والاختلاف؟ أين هو تقبل الآخر كما هو؟ (نتحدث غالباً عن بلدان الغرب الذي يعلي من هذه القيم الحديثة، فهي الوجهة المفضلة للاجئين في عصرنا). غير أن هذا الاعتراض الذي يبدو منطقياً للوهلة الأولى، يمكن أن يرتد على اللاجئين أنفسهم، وبخاصة حين يشكلون جالية كبيرة نسبياً لديها رابط هوية قوي يضم أفرادها: وماذا عن تقبلكم أنتم للآخر (المجتمع المضيف) وثقافته؟ لماذا ترفضون الاندماج إذا كنتم تنافحون عن وجوب تقبلهم لهويتكم الثقافية؟ لماذا لا تتقبلون أنتم ثقافة المجتمع المضيف، بل تتمسكون بثقافتكم الأصلية بكل هذا العناد؟ أليس هذا صورة عن رفض الآخر المختلف؟ واقع الحال أن اللاجئين الجدد في زماننا، وهم بالملايين، يخضعون عموماً لمتطلبات الاندماج، دفعاً للضرر أكثر من كونه قبولاً إيجابياً عن قناعة. فهم الطرف المحتاج، وهم الذين يواجهون الرفض من قسم من المجتمع المضيف، ما لم يكن من كله. بل هناك حالات من الكلبية بين اللاجئين الذين يقرّعون أبناء جلدتهم بقسوة بدعوى رفض الأخيرين للاندماج، ويحمّلون ثقافتهم مسؤولية نزعة الانغلاق و«التخلف» المتأصلة فيها حسب رأيهم.
لا نعرف، بعد، الآثار المستقبلية لهذا التقبل على مضض، وبخاصة على الجيل الذي سينشأ أو يولد في بلدان اللجوء. لذلك لا يمكن الجزم بـ«أحقية» وجهة نظر على أخرى، أو الدفاع الحماسي عن أحدهما.
يبقى أن اللجوء الجديد الذي أعقب الحروب المدمرة في بلدان الربيع العربي، كسوريا وليبيا واليمن، إضافة إلى العراق، أشبه ما يكون بموجات الهروب الجماعية الكبرى الناجمة عن كوارث طبيعية. ما أصاب سوريا، على سبيل المثال، يشبه آثار زلزال كبير ضرب كامل الجغرافيا السورية تقريباً، مع فارق أن الزلازل تستمر لدقائق معدودة، مع بعض الارتدادات. في حين أن الزلزال الذي افتعله النظام المجرم متواصل منذ ثماني سنوات قابلة للاستمرار.
على أحد ما أن يشرح لجبران باسيل سبب استمرار الزلزال السوري بما في ذلك تدخل حليفه حزب الله العسكري في سوريا.
كاتب سوري