زرت نابلس متكئاً على الكلمات. كان ذلك منذ سنتين، حين اكتشفت الحكاية من خلال عينيّ اللتين صنعتا إيقاع رواية «رجل يشبهني» التي كنت أقوم بإنجازها كجزء ثالث وأخير من «ثلاثية أولاد الغيتو».
خرجت الفتاة النابلسية من الحكاية، فرأيتها تغادر ركام «صبّانة كنعان» وتمشي فوق أقواس المدينة، وهي تحمل بين يديها فدائياً مضرجاً بالألوان.
صرت من دون أن أدري ابناً لمدينة يكمن جمالها في قبابها العتيقة التي احتضنت أرواح الشهداء، وفي سحر أزقتها التي صارت عريناً للفدائيين.
يسمونها دمشق الصغرى وجبل النار، هذه المدينة التي تقع بين جبلين ليست الصغرى بين المدن، بل هي الاسم الذي أضعناه وسط حطام تاريخنا المنقلب.
وفي الأسبوع الماضي دخلت إلى نابلس من جديد، ولكن متكئاً على الدم هذه المرة. كان دم المدينة يغطي السماء والأرض. وكان مطر الرصاص والقذائف يحتل الشوارع في صباح المدينة المكتظ بالناس.
وفي أزقة الموت رأيت كيف أعادت نابلس رسم أبجديتنا. انبثقت الأبجدية من الأزقة المثقبة بالرصاص، فقرأت الممحو، وشعرت بأن لغة العرب صارت من جديد إطاراً للمعاني.
هذا ليس وقت الشعر والحلم، تقولون.
لكن مهلاً، فوسط نثر السياسة الفلسطينية الرديء، صار الفدائيون هم الشعراء الذين يكتبون الحلم، بينما يقوم الآخرون باجترار نثر الاستسلام والوهن.
في مواجهة زمن الذل العربي، وفي واقع تحول فيه الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين إلى ممثل على مسرح الخراب والتبعية، جاءت احتمالات الحياة من جنين ونابلس، لتعلن أن فلسطين لن تستسلم للنكبة.
إن أي قراءة موضوعية لما يجري في نابلس وقراها، تقود إلى الاستنتاج بأن الاحتلال الإسرائيلي يحاول فرض إيقاع النكبة وممارساتها ومصطلحاتها على الفلسطينيين وعلى العالم.
هذه ليست سياسة جديدة، وهذا ما شهدناه منذ اتفاق كامب ديفيد المصري – الإسرائيلي إلى اتفاقيات أوسلو. وبعد هزيمة الانتفاضة الثانية، اتخذت هذه السياسة مساراً جديداً ركيزته الأساسية هي فصل قوات الأمن الفلسطينية عن الناس، وجعل مهمتها الوحيدة حماية أمن الاحتلال، من خلال التنسيق والتواطؤ.
كانت هذه السياسة مغطاة بكلام عن عملية سلام وهمية. أما اليوم، ومع صعود اليمين الديني الفاشي إلى السلطة في إسرائيل، وتحول المستوطنين إلى أسياد السياسة الإسرائيلية، فإن الأمور انكشفت واتخذت وتيرة متسارعة وأكثر وحشية.
ما جرى في نابلس كان مجزرة مكتملة العناصر.
هدف العملية لم يكن قتل الشهيدين محمد أبو بكر الجنيدي ومحمد سليم فقط، بل قتل المدينة وتحطيم مقاومتها، وإشاعة مناخات الرعب فيها.
ذكرتنا تفاصيل الهجوم الذي بدأ في التاسعة صباحاً بالمناخات التي كان يشيعها الهاغاناه والبالماخ والأرغون وشتيرن عام 1948. فالمناخ الذي فرضه الجنود المتسسللون بلباس المشايخ والدعاة، وكثافة النيران التي أطلقها قناصة الجيش الإسرائيلي المنتشرين في جبل عيبال وفوق أسطح البنيات العالية أوقعت 11 شهيداً و108 جرحى بالرصاص الحي، إضافة إلى جرحى الدهس بآليات الجيش الإسرائيلي والقنابل الدخانية.
كل هذه العوامل تشير إلى أن المذبحة كان مخططاً لها أن تتخذ شكل مذابح 1948. وأن مشروع «كاسر الأمواج»، الذي كسرته أمواج المقاومة، تحول إلى مشروع جريمة قتل جماعي.
أعلنت هذه المجزرة أن النكبة الفلسطينية المستمرة دخلت مرحلة جديدة مفتوحة على كل الاحتمالات، وأن اللعبة القديمة التي جعلت من السلطة وأدواتها الأمنية حاجزاً لمنع الفلسطينيين من المقاومة ومعبراً للجريمة الإسرائيلية التي تختبئ خلف مصطلح سقيم اسمه محاربة الإرهاب، هذه اللعبة يجب أن تتوقف بأي ثمن.
لقد كانت آخر تجليات هذه السياسة هي المسخرة التي دارت في مجلس الأمن مع سحب مشروع إدانة الاستيطان مقابل فتات مالي ووعود كاذبة. ثم جاء اجتماع العقبة الذي مزقه فتى من «عرين الأسود» في حوارة.
ما إن جرى تمرير صفقة مجلس الأمن، حتى قام جيش الاحتلال بمذبحة نابلس، ليعلن أن الصفقات مع السلطة الفلسطينية ليست سوى معبر إلى استمرار سياسة العنف الوحشي في فلسطين.
الفدائيون الذين استشهدوا وقاوموا، كانوا يعرفون استحالة التسوية مع هذا الاحتلال الذي وضع لنفسه هدفاً واضحاً هو الاستيلاء على كل فلسطين وتحويل الفلسطينيين إلى عبيد ولاجئين.
قالت نابلس في مقاومتها إن فلسطين لن تموت.
لقد عرفت هذه الأرض كل أنواع الغزوات، وبقيت صامدة بأهلها. لكنها لم تعرف غزاة يشبهون هؤلاء البرابرة الذين تدثروا بلغة الضحايا، قبل أن يكشفوا حقيقتهم بأيديهم. اليوم يغلي المرجل الداخلي الإسرائيلي دفاعاً عن «الديموقراطية» والمحكمة العليا. غير أن دعاة الديموقراطية هولاء لم يلتفتوا إلى حقيقة أن الاحتلال والحكم العسكري في الضفة الغربية سوف يتخذان شكلاً فاشياً في إسرائيل نفسها.
بالأمس كان هؤلاء في السلطة، لكنهم لعبوا لعبة الاحتلال والقمع. لابيد وغانس اللذان يتباكيان على الديمقراطية اليوم، يدفعان ثمن الاحتلال وممارساته الفاشية التي كانا جزءاً من آلتها.
المسألة اسمها الاحتلال والاستيطان ومصادرة الأراضي والدعوة إلى التفوق العنصري.
الإسرائيليون يريدون إعادة الفلسطينيين إلى مناخات عام 1948، وهم يعلمون أن النكبة ليست ذكرى بل واقع يعيشه الفلسطينيون منذ أكثر من سبعة عقود.
النكبة مستمرة والمقاومة مستمرة أيضاً.
في حوارة وزعترة، أعلن المستوطنون بأعمالهم الوحشية، حيث أحرقوا البيوت وسَكِروا بالدم والنار، بحماية جيش الاحتلال، أن الاحتلال دخل في عتمة الضم والأبارتايد، وأن لا خيار أمام الفلسطينيات والفلسطينيين سوى المقاومة والصمود.
رأيت الشهداء الجدد ينضمون إلى الشهداء القدماء، رأيت النابلسي يمسك بيد مروان الكيالي، وعدي التميمي يعانق علي أبو طوق، وكان الوديع يقف إلى جانب خليل الوزير.
كلهم التقوا فوق قباب نابلس، معلنين أن نابلس هي فلسطين، وأن فلسطين أكبر مما يظنون لأن أرضها تعمدت بدماء الشهداء.
من استراليا وفلسطينيو استراليا والشرفاء من جاليتنا الغربيه المحترمه ومؤيدوا القضية الفلسطينيه المقدسه من الجاليت الاثنيه ابعث اليكم كل الاحترام والتقدير استاذنا الياس خوري نطنل الله بعمرك.
لا خيار لنا ولم ولن يكون خيارًا اخر الا المقاومه مقامة شعبنا الفلسطيني البطل الذي يصمد ويقاوم هؤلاء القتله الصهيونيون الى ان نسترع كل فلسطين كل شبر من ارضنا
مشكور على المقال الجميل… المشكلة ان الواقع أعقد و أكبر… أشك أن هنالك احد قادر على تحليل الواقع الفلسطيني… او حتى معرفة اسباب لماذا وصل الوضع إلى ما هو عليه الأن… الامور معقدة لدرجة يصعب تحليلها… فلسطين احجية لا حل لها.
المقاومه هي الطريق الوحد لاسترجاع فلسطين.
لا لمفاوضات التطبيع والعماله. كلامك جميل استاذ الياس خوري الله يديمك