عواقب تسنين الثورة السورية

استقر العمق الانفعالي للثورة السورية على البيئات السنية في عام 2013 وما بعد، فلم يبق من المقاتلين ضد النظام غير المنحدرين منها. أقصى تسنين نازع إلى التشدد غير السنيين من المقاتلين السوريين، ورحب من وجه آخر بجهاديين سنيين غير سوريين. كان هذا وخيم العواقب على صورة صراعنا في العالم، وعلى مستوى مستقبل سوريا السياسي، كما على مستوى المستقبل السياسي للسنيين السوريين بالذات.
قبل كل شيء لم تستقر الثورة على عمق سني متماثل مع ذاته وموجود سابقاً، بل على عمق سني مُنشَّط، جانح نحو صيغه الأشد تعبوية وانعزالية ومقاطعة للعالم، وليس بحال نحو سنية اجتماعية تقليدية، أو ما كان يوصف أحياناً بـ«الإسلام الشامي الوسطي». يتعلق الأمر بعملية أسلمة للمسلمين وتسنينٍ للسنيين، أي صنع السنيين المضاعفين، وهو ما جرى على حساب السنيات التقليدية المتعددة داخلياً والمتنوعة بتنوع بيئاتها. وقد اقتضى الأمر باستنفار مظلومية كلية، تدرج مظالم حقيقية في نسيج تظلم شامل من العالم المعاصر. ما تقرره المظلومية الكلية ليس فقط تعريف العالم كعدو، وإنما كذلك تعريف الذات كإسلام حصراً، مع إعادة تعريف الإسلام ذاته كإسلام فقهي و«عالِم»، وليس الإسلام الاجتماعي التاريخي المتصالح عموماً مع زمنه ومحيطه. ثم كذلك إعادة تعريف سوريا نفسها بهذا الإسلام غير الاجتماعي، على ما تظهر «وثيقة الهوية السورية» التي خرج بها مشايخ «المجلس الإسلامي السوري» قبل نحو عامين.
الوثيقة الوجيزة (بالكاد 190 كلمة) صادرة عن وعي سني مشتط، مغترب بالمعنيين الحرفي والمجازي للكلمة. فالمشايخ الذين أصدروها يعيشون في تركيا، غرباء لاجئين خارج بلدهم، وهم شكلوا مجلسهم في سنوات لجوئهم؛ ثم إن وعيهم مغترب عن واقع الحال السوري التعددي دينياً ومذهبياً وثقافياً وسياسياً، فلا يرتد إلى واقع سني أكثر مما يرتد إلى واقع عربي (هنا نقد مفصل للوثيقة يتضمن نصها). والحال أن التصور الإسلامي لسوريا أشد استبعادية من التصور العروبي، ويتصف سلفاً بعدائية وتوتر حيال غير السنيين وغير النمطيين من السنيين، قلما اتصف بهما بالقدر نفسه التصور العروبي حيال غير العرب. الوعي السني كما مثله المشايخ ممزق بين عتو امبراطوري مألوف، يدفع هؤلاء الذكور المسنين، الملتحين، اللاجئين، إلى الكلام كأنهم أصحاب البيت في سوريا على نحو يكذبه حالهم بالذات، وبين هذا الحال البائس الحزين الذي لم يدفع المشايخ إلى التواضع لمواطنيهم والقبول بالندية والبحث عن جوامع ومشتركات.
والواقع أن هناك مشكلة سياسة وقيادة معقدة في تكوين ووعي الإسلامية السنية السورية المعاصرة، فاقمها ما تعرضت له بيئات السنيين السوريين من تمييز واستبعاد في بلدهم، ومنعهم من أي أشكال مستقلة أو شبه مستقلة من التنظيم. بيد أن من أسس المشكلة أن سياسة الإسلاميين هي السيادة أو طلب السيادة، وليس أن يكونوا طرفاً سياسياً إلى جانب غيرهم في بلدان تعددية مثل سوريا (ومصر، وفلسطين والأردن وكل بلد آخر على الإطلاق). طلب السيادة يعني فرض نظام حزب واحد إسلامي، عنيف، مثل إيران، وفي الأغلب أسوأ؛ أو هو يعني حالة حرب أهلية مستمرة مثل الدولة الأسدية، لكنها هنا أسدية سنية. لا يريد الإسلاميون أن يكونوا حزباً أو أحزاباً في سوريا أو غيرها، تنشط إلى جانب غيرها، بل أن يكونوا الدولة. وهذا لا يمكن أن يكون مقبولاً من جميع غير المسلمين ومن جميع المسلمين غير الإسلاميين، وربما كذلك من بعض الإسلاميين العقلاء وغير السياديين.

فشلت الثورة السورية بأثر إهدار الروحية الجامعة التي عرضتها في البدايات، وحلول روح استئثارية تقسيمية ومنقسمة هي ذاتها، لم تتشكل حولها حتى أقلية، بل نثار من أقليات، كانت طوال الوقت قوى حرب أهلية في سوريا مثل النظام، وفي الثورة السورية مثلما يشتهي النظام

وغير أزمة السياسة ثمة أزمة قيادة سنية، يكمن في جذرها الركون إلى المظلومية وما تدفع إليه من توجه نحو الماضي وأعماق النفس، ومن انعزال وصغر، ومن نرجسية وكره للغير، بدلاً من مقاومة الظلم وما يدعو إليه من توجه نحو الغير والمستقبل والعالم، ومن نمو ونضج. ليس هناك حلول في الماضي لمشكلات اليوم، وليس ثمة حل إسلامي، سني أو غير سني، لأزمة القيادة. والتجربة مُحكِّمة: فلم تنتج الإسلامية السورية غير رجال صغار متعصبين غير عقلاء، يقودون حصراً نحو الخراب والتدمير الذاتي، قيادات «تبدأ بزهران علوش، لتنتهي بأبي محمد الجولاني، مروراً بـ «المعجزة» أبو عمشة»، على ما ذكر شكري الريان في مقالة مريرة قبل حين. فإن كان من حل لأزمة القيادة فهو في التوجه نحو العالم، أي نحو المشاركة مع الغير، بدءاً من المواطنين المختلفين وصولاً إلى حلفاء في العالم.
وعبر أزمة السياسة والقيادة، تظهر السنية السورية أقلية عصبية وقلقة، خائفة من الانحلال وميالة إلى الانعزال، لا شركاء لها ولا حلفاء، طائفة ذات احتياجات خاصة، حسب التعبير اللاذع والبليغ لعمر قدور. أي عملياً جماعة معاقة. لقد عمل الحكم الأسدي على صنع أقليات في سوريا بحيث يمتنع أن تتشكل أي أكثرية سياسية ضده، لكن يجب القول إن الإسلامية السنية تجاوبت بكامل ما استطاعت استجماعه من غفلة مع هذا المسعى باسم كون السنيين هم الأكثرية الجاهزة والدائمة. هذا باطل: فلم تكن للسنيين سياسة محددة في أي وقت، وكان أوساطهم المدينية قومية عربية حتى سبعينات القرن العشرين. والإسلاميون بين السوريين ككل، كما بين السنيين، أقلية سياسية (في مرتبة 20٪ من مجموع أصوات المنتخبين في تونس ومصر)، تُكثُر نفسها باسم الإسلام لتسوغ مطامحها السيادية، وهذا بالضبط مثلما هم البعثيون أقلية سياسية كثرت نفسها باسم العروبة واستولت على الدولة. وبالمناسبة، الأرجح أن تطييف النظام وتوريثه عائلياً في «سوريا الأسد» كان حلاً لأقلوية البعثيين، يزودها بركيزة حكم صلبة. ثم إن الأقلوية الإسلامية السنية منقسمة على نفسها إلى أقلويات متنازعة، تقلل كل منها وكلها معاً أكثر وأكثر، ولعلها تشرح عداءها للديمقراطية ونزوعها إلى العنف. ومثلما كان برنامج الأقلوية البعثية في تعريب العرب (وغير العرب) عبئاً على العروبة ومنبع نزاعات مفتوحة في النطاق العربي الأوسع، فإن برنامج أقليات الإسلاميين السنيين في أسلمة المسلمين هو سلفاً عبء على الإسلام وعموم المسلمين ومنبع احتراب مستمر. والبرنامجان معا ينطويان على خصخصة للصفة العربية مرة والصفة الإسلامية مرة، بيد الحزب القومي العربي مرة والحزب الإسلامي مرة، قبل أن يقرر مالكا العروبة والإسلام من يقبلون به كعربي حقيقي ومسلم حقيقي ومن ليس كذلك. وعبر خصخصة ما هو عام، في البرنامجين معاً مزايدة باهظة على تاريخ العرب والمسلمين في سوريا، كما على تاريخ سوريا ذاتها ككيان وطني حديث.
وبفعل الديناميكية الأقلوية، تحول الموقع المتني للمسلمين السنيين في المجتمع السوري من قاعدة استقلال ووحدة سورية إلى ركيزة تبعية وتمزق وطنيين، تماماً مثل النظام.
سوريا اليوم تشبه الحكم الأسدي، بلد متكسر بفعل واحدية ضيقة صلبة فرضت عليها طوال أكثر من نصف قرن. وبمنظماتها الكثيرة المتشابهة، تشبه السنية المضاعفة الحكم الأسدي في الواحدية المتكسرة إلى واحديات قاسية، تضيق بغيرها دون أن تتسع حتى لنفسها أو لنفوسها المتعددة. أضاعت تراثها الاجتماعي المتنوع والتعددي دون أن تكسب شيئاً بالمقابل.
لقد فشلت الثورة السورية بأثر إهدار الروحية الجامعة التي عرضتها في البدايات، وحلول روح استئثارية تقسيمية ومنقسمة هي ذاتها، لم تتشكل حولها حتى أقلية، بل نثار من أقليات، كانت طوال الوقت قوى حرب أهلية في سوريا مثل النظام، وفي الثورة السورية مثلما يشتهي النظام، ثم في الأرخبيل الإسلامي السني ذاته.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عربي سوري:

    في الماضي كان الانتماء الى الشيوعية في سورية هو نوع نستطيع ان نطلق عليه تطرف يحاول فيه الشيوعي ان ينعزل عن محيطه المتخلف والرجعي والعشائري ولهذا انتشرت فكرة الشيوعيه في المناطق الريفية والشرقية من سورية واصبحت لها اشكال واتجاهات متعددة وكان لقب شيوعي يعني ثورجي يرفض ان يتساوى مع ( الرعاع) الذين يؤمنون بوجود اله او جنه او نار ومن اجل الوصول الى ذالك يتخلون عن متع الحياة مثل جنس بانواعه (المتعددة) وشرب الكحول واكل لحم الخنزير اللذيذ ومن جهة اخرى يمكن ان نصف بعض المتشيعين من النوع الذي يعاني مشاكل اجتماعية ونفسية وفراغ بعد ان سدت في وجهه كل السبل بعد آن فشلت محاولاته في الوصول الى السلطة في سورية والعراق بعد مناوشاتهم الحامية مع البعثيين والناصريين الذين يرفعون شعار القومية العربية بدلًا من ( القومية) الشيوعيه العالمية وبصراحة الحمدلله انهم لم يصلوا الى سدة السلطة لانه في هذه الحالة سنكون خسرنا دنيانا واخرتنا عندها لن ينقذنا احد كما حصل مع اوروبا الشرقية التي احتضنتها اوروبا الامبريالية وطورتها اقتصادياً او المانيا الشرقية الذين كانوا يشكون من قرف النظام الشيوعي رغم انه ليس مجرماً كما في روسيا الى درجة انهم هددوا بترك المانيا الشرقية والذهاب الى الغربية

  2. يقول تركي محمد:

    الجفيفية إن أزمات المنطقة ادت لظهور جماعات متشددة. فمن الحرب الأفغانية التي أفرزت القاعدة وطالبان إلى حرب لبنان التي أفرزت حزب آلله. إلى أزمة العراق التي افرزت الحشد الشعبي والمليشيات الطائفية ..إلى الحرب السورية ألتي أفرزت جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية ظإلى الأزمة اليمنية التي أفرزت جماعة الحوثي. ولكن الفرق أن جماعات الإسلام السني المتشددة العنيفة تم محاربتها والقضاء عليها اما جماعات التشدد الشيعية فاكتسبت شرعية فحزب آلله يحكم لبنان عمليا ومليشيا الحوثي تحكم اليمن والمليشيات الدينية الفاسدة تحكم العراق …
    وهنا الخطر أن يتم غض الطرف عن طرف متشدد ومحاورته والاعتراف بوجوده..ومحاربة الآخر المناقض له والقضاء عليه .. فهذا من قصر النظر.. فتصبح العصابات دول ويوم ما سوف تسيطر على كل المنطقة وإن غدا لناظره قريب.

  3. يقول فارس نور الدين / برلين:

    الأستاذ كاتب المقال المحترم.
    القارئ يحاول ان يقف عند مقال صريح لا لبس فيه. فيه وضوح في اختيار الكلمة والجملة المبسطة، وليس الوقوف عند كتابات تفلق الصخر والعقل وتبعد القارئ عن قراءة المقال.
    نتمنى أن يراعى في ذلك بساطة الكتابة والابتعاد عن التعقيد والزخرفة واختيار جمل وألفاظ غير معقدة ترقى إلى عقل وفكر المتلقي .
    ضرورة البحث عن مفردة بسيطة، ذات معنى وهدف. ان تكون سهلة وسلسة. اتركونا من العبارات والجملة الطنانة التي لا يفهما غير الاكاديمي. نحن نقرأ صحيفة يومية. صحيفة لها وزنها ومكانتها. ونرجو أن تكون العبارات واضحة.
    نداء للسيد كاتب القال ياسين الحاج صالح أولا، ولغيره من الكتاب الذين ينحتون من صخر.
    ما يهمني كقارئ الوضوح في المعنى والبساطة في العرض.. وأن أفهم واعي ما تكتبون.

    1. يقول ابن الوليد. المانيا.:

      اوافقك الرأي .. و الموقف .. و اثمن صراحتك .. التي اتمنى أن تجد آذانا صاغية عند نفر من كتابنا الأعزاء ..
      .
      صراحة .. مرات عديدة اسارع الفكرة التي تربد ان تستقر في ذهني .. و هي ان هناك من لا يكتب ليفهمه القراء ..
      بل بالعكس .. يعتبر البطولة هي ان لا يستطيع القارئ فهم ما يكتبه .. كي ينتصر عليه بالضربة القاضية ..
      و يظن ان هذا مصدر تألق عند القارئ .. لكن القارئ لا يعود .. و هكذا تبقى مقالات .. قد تكون قوية لا تقرأ ..
      .
      علما أن رأسمال الكتاب هو القارئ ..
      .
      و هنا المعضلة التي يحاول البعض تفسيرها بأننا امة لا تقرأ .. عوض البحث عن السبب في المقروء.
      .
      لكن .. وللأمانة .. تبسيط المعقد فن في حد ذاته .. و ليس بامكان الجميع .. و يستوجب درجة عالية جدا من اتقان المادة المقدمة.

  4. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي ياسين الحاج صالح. التسنن المقصود في المقال هو جزء من مأزق الربيع العربي. ويعود بالدرجة الأولى إلى الإستبداد العربي فهو متعدد الأوجه بعثي وإسلامي وملكي وجمهوري وشرقي وغربي أوخليجي. من المعلوم أن زهران علوش والجولاني مدعومان والهدف ركوب الثورة والسيطرة عليها! والنظام السوري كبقية الأنظمة العربية دعم هذه الموجة الدينية منذ نشأتها وخاصة بعد حرب الخليج الأولى ومن ثم الثانية أي الإحتلال الأمريكي للعراق وكانت هذه الأنظمة تستثمر، تيمنًا بالغرب الإمبريالي أو الإستبدادي السلطوي الروسي أوالبوتيني، في نتائجها كما هو معروف أيضًا، تحت ادعاءات محاربة الإرهاب بل كان المقصود من ذلك ابعاد المجتمع عن السياسة وقد بدأت القصة مع السادات والشعراوي للتغطية على اتفاقات كامب ديفيد وحصر للإسلام السياسي مما دفع نحو التطرف كما أرادت هذه الأنظمة الإستبدادية، بغض النظر عن الدافع نحو السلطة الشمولية لقسم كبير الإسلام السياسي (النهصة التونسية مثلًا تختلف) . كل من يعرف سوريا جيدًا يعرف جيدًا أن الثورة السورية والسوريين وسوريا بعيدين كل البعد عن هذه الاسلامية التي ساهمت بالفعل بفشل الثورة السورية تماما كما أرادتها الأنظمة لإستبدادية والنظام معًا ولو من زوايا مختلفة!. المقال أعطى صورة واضحة!.

إشترك في قائمتنا البريدية