تسجل في المراثي عادة معطيات تاريخية توثق معطيات عن المرثي، وعن أسباب موته وعن علاقته بالراثي، وغيرها من المعطيات التي يكون غرضها تثبيت النص في التاريخ، وإضفاء صبغة واقعية على القصيدة، وبيان أن خلفها وما بين يديها جملة من الوقائع. وفي ربط الرثاء بالواقع إمعان في مأساوية النص. وما يجعل الموت مأساويا، ليس في أنه حقيقة سارية المفعول من بداية ميلاد المرثي إلى يوم وفاته، بل في أنه حدث فجأة. فجائية المنتظر هي أعجب شيء في مأساة الموت؛ فيكون الموت من ناحية في حكم المنتظَر، ويكون فاجعا مفاجئا كأنه يأتي في لحظة غفلة. أعجب ما يقال في هذه المأساة التي يكون فيها الحادث في حكم المنتظر أن الإنسان فيها يظل مشروع فعل يريد أن يكتمل حتى يقطعه الموت.
الموت بما هو وقائع شيء وبما هو شعر شيء آخر، لأنه يصبح جزءا من العوالم الممكنة، فكيف يمكن أن يكون الرثاء بما هو شعر جزءا من العوالم الممكنة؟
يربط كثير من الباحثين ومن بينهم روث روان Ruth Rouen بين عالم الأدب والعوالم الممكنة بالقول، إن العالم الخيالي Fictional Worlds يمكن إدراكه على أنه عالم ممكن. في هذا التصور ينبغي أن نؤمن بأن العالم الواقعي يتألف من عوالم متعددة من بينها العوالم الممكنة. ويذهب الفيلسوف كريبكاي إلى أن الكون يبنى وفيه عنصر مركزي يكون مقابلا لعناصر أخرى، وأن هذا العنصر المركزي هو العالم الفعلي أو الحقيقي، الذي تتحدد بالنسبة إليه العوالم البديلة أو غير الفعلية. وحتى يكون العالم ممكنا، عليه أن يرتبط بالعالم الفعلي برابط هو إمكان العبور من عالم مركزي فعلي إلى عالم ممكن.
في عالم الأدب وهو العالم الممكن، ينبغي أن يراعى مفهوم أساسي هو التخييلية، وتعتبر روث روان، أن العالم الواقعي أنواع منه، عالم الحس المشترك والعالم الإيديولوجي والروايات التاريخية للعوالم وغيرها، وهي ترى أن العالم التخييلي هو نوع من هذه العوالم؛ وتعتقد أن النصوص التاريخية أو غيرها يمكن تخيلها، أي تحويلها عبر الخيال في مراحل متأخرة، فعلى سبيل المثال فإن الأساطير التي وصلتنا من الثقافة اليونانية عن الآلهة كانت تعامل في وقتها على أنها نسخ من الواقع، غير أنها باتت بعد ذلك عالما خياليا.
وتعتبر التخييلية خاصية مميزة للنصوص الأدبية، فهي تشكل موضوعا طبيعيا للبحث الأدبي؛ لكن دراسات العوالم الممكنة نظرت إلى هذه الخيالية لا من جهة أنها نصوص تطرح عالما خاصا بها، لا علاقة له بالعالم الواقعي؛ بل باعتباره نوعا من العالم الفعلي فيه علاقة بين العالم وما يمكن أن يكون.
إذا عدنا إلى بعض الرثائيات الجاهلية القديمة، وجدنا أن فيها ضربين من الروابط بين العالم الواقعي والعالم الممكن، يبدوان على طرفي نقيض أولهما التشابه بين العالمين، وثانيهما تكسير الانسجام بينهما. إذا نظرنا مثلا في رائية أعشى باهلة التي قالها في أخ له هو المنتشر بن وهب، فإن التشابه بين العالمين يكون في بيتها الأول ( قَدْ جَاءَ مِنْ عَلُ أنْبَاءٌ أنَبؤُهَا// إلي لاَ عَجَبٌ منهَا ولا سُخَرُ).
وتعتبر التخييلية خاصية مميزة للنصوص الأدبية، فهي تشكل موضوعا طبيعيا للبحث الأدبي؛ لكن دراسات العوالم الممكنة نظرت إلى هذه الخيالية لا من جهة أنها نصوص تطرح عالما خاصا بها، لا علاقة له بالعالم الواقعي؛ بل باعتباره نوعا من العالم الفعلي فيه علاقة بين العالم وما يمكن أن يكون.
الرابط الأساسي هو في صدقية الإطار وفي وصول النعي؛ لكن الأهم من ذلك أن الشاعر ينفي عن هذا الخبر كل طابع تعجب وسخرية. حَرْفِية النص تقودنا إلى أننا إزاء عالم واقعي أو فعلي؛ إذ يأتي النعي من بعيد فيثير في النفس من الإحساس ما لا يحمل لا على التعجب ولا على السخرية؛ فهو خبر لا غريب فيصاب المرء بالتعجب، ولا هو قابل لأن يقلل من شأنه فيجعله موضوعا للسخرية هو خبر لا يُعلي ولا يُسفل هو مجرد خبر. إلا أن المعنى الضمني الذي يتوارى خلف هذا المعنى الحرفي يجعله خبرا كائنا في عالم ممكن، بما فيه من تخييلية. فالفضاء يمكن أن يحيل في هذا السياق، وبحكم انفتاح اللغة على الرمزية، على السماء وليس على مرتفع هضبة من هضاب العرب، مثلما يذكره الشراح.
العلو الذي يقترن بعوالم الموت التخييلية يجعله حدثا مقبلا من السماء على نقيض حدث الميلاد المقبل من الأرض، لكن السماء التي لا يرتبط الراثي بها، إلا بالأنباء تجعلها عالما ممكنا مرتبطا بواقعه، وفي ذلك العالم يحدث الموت باعتباره خبرا يأتي من بعيد، من مكان أفقي، والحق أنه مقبل من مكان علوي: النبأ الذي هو في العالم الواقعي نعي يأتي من فضاء أفقي، لكن النعي بما هو عالم ممكن هو خبر يفيد أن العروج، عروج الروح قد أزف موعده. خبر الموت في عوالمنا الواقعية هو خبر يثير العجب، رغم انتظاره، لكنه في العالم الخيالي الممكن هو خبر منزوع العجب، هو خبر كغيره من الأخبار، لكنه خبر كارثي فكيف يمكن أن يكون الخبر منزوع العجب ويكون كارثيا؟ هذا هو التشابه الذي ينحو منحى التبدل كلما انتقلنا بين عالم الواقع وعالم الموت الممكن. عالم الموت الواقعي هو عالم الاستغراب، الذي يبرر أي ندب وبكائية، والعالم الخيالي تُحيّد فيه العناصر العجيبة العالم العجيب يتطلب كي يكون عجيبا أن تنزع عن الواقعي واقعيته، لكن أيضا أن تنزع عن العجيب عجائبيته. حين أبني عالما موازيا في الخيالي، وأكون فيه أنا نفسي الذي في العالم الواقعي، فلا قيمة لهذا السفر بين العالمين: نحن نسافر بين الواقعي والممكن كي نصبح ونحن الذين نظل أنفسنا، غرباء.
المعطى الثاني الذي يربط بين العالم الواقعي والعوالم التخييلية هو كسر الانسجام؛ ذلك أن العوالم التخييلية ليست عوالم متناسقة مثلما هو الأمر في عوالم المنطق الممكنة. في هذه العوالم تكون متسقة وغير محدودة العدد وكاملة. العوالم التخييلية لا تكون تامة، لكنها تكون متناقضة ومنتهية العدد.
في البيت الثالث من القصيدة (وجاشت النفس لما جاء جمعهم/ وراكبٌ من تَثْلِيثَ معتمرُ) ثلاثة عناصر تؤثث عالم الخيال الممكن هي: أثر الموت في النفس، ووصف القادمين ووصف واحد منهم. هذا الضرب من الفوضى الدلالية يبدو مقبولا في علاقة الأشياء بعضها ببعض، وترتيبها وتنظيمها؛ لكنها فوضى مطلوبة. فخرق للنظام هو جزء من عالم الرثائية الخيالي لأنه أساس الفاجعة: أن يكون لسانك مشتتا بين باطنك المكلوم وخارجك الفوضوي، وترى الناس جمعا وترى بعضهم بدقة، وتنظر بعين بانورامية وبعين جزئية تضخم الأحداث، فتصبح العين التي قد تتمنع عن البكاء تكبر وتقرب المشهد أو تبعده، تغوص في النفس أو ترى من فوق، وتعرف حتى القادمين من بعيد. القرب والبعد في النظر هما شكلان من فوضى النفس وفوضى العالم، هذه الفوضى هي أهم ما يربط العالم الواقعي بالعالم الخيالي، ويربط العالم الباطن بالعالم الخارج وعالم الميتافيزيقا بالعالم الفيزيائي.
يظل الموت تعبيرة ثقافية تلتقي فيها العوالم الفعلية بالعوالم الممكنة، وربما كان الموت الفرصة الأعمق كي نعلم أن عالمنا الذي نعيش فيه ليس إلا عالما ممكنا من عوالم كثيرة. يبقى عالمنا الواقعي الذي نعبر منه إلى الموت دليلنا على أننا كيانات تعيش في عالم مؤقت عيشا يخيل إلينا أنه أبدي، ونعيش ونحن في الواقع المؤقت بالخيال حكايات وقصصا، كلما تشبثنا بها على أنها دليلنا على أننا أحياء، حملنا الخيال بعيدا عنا إلى شفة مبتسمة، أو إلى عين حالمة بالحب بالنجاة بالمأساة أو بالموت. وأنت في الدنيا يمكن أن تصف الموت وكأنك تتحدث عن أي عالم ممكن آخر يمكن أن يستوعبه إدراكك في الدنيا. مهما كانت قصائد الرثاء كثيرة فالقصيدة اليتيمة التي لم تُقل هي التي يرثي فيها الموت الأحياء: هذا كلام عجيب غير أنه عالم ممكن.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
*إن العالم الخيالي Fictional Worlds يمكن إدراكه على أنه عالم ممكن
>>
*إن العالم القّصَصِي Fictional Worlds يمكن إدراكه على أنه عالم ممكن
>>
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِۦ لَمِنَ ٱلْغَٰفِلِينَ) !!؟
/أعجب ما يقال في هذه المأساة [مأساة الموت] التي يكون فيها الحادث في حكم المنتظر أن الإنسان فيها يظل مشروع فعل يريد أن يكتمل حتى يقطعه الموت/.. اهـ
لكن «القوة» النفسانية الوحيدة التي يمكن لها أن تهزم الموتَ إلى عالم الأبدي حقا إنما هي «قوة» الأدب والفن الحقيقيين، خاصة وأنك تعيد التأكيد في الفقرة الأخيرة من نصك على أن «عالمنا الواقعي الذي نعبر منه إلى الموت دليلنا على أننا كيانات تعيش في عالم مؤقت عيشا يخيل إلينا أنه أبدي»: وما هذا، لعمري، إلا قولٌ عُجاب – ألم تسمع محمود درويش يقول في «جداريته»، استنادا إلى أقوال الفلاسفة القدماء في هذا السياق:
«هزمتكَ، يا موتُ، الفنونُ جميعها / هزمتكَ، ياموتُ، الأغاني في بلادِ الرافدينِ / مسلَّةُ المصريِّ / مقبرةُ الفراعنةِ / النقوشُ علي حجارةِ معبدٍ / هزمتكَ وأنتصرتْ / وأفلتَ، من كمائِنِكَ الخلودُ».. !!
تصويب مطبعي: علي حجارةِ > على حجارةِ