لا أعلم إن كان تلاميذ هذه الأيام يُدرَّسون مصطفى لطفي المنفلوطي. الأغلب أنه لم يعد في منهاجهم إذ حتى في زماننا، حين كنا تلاميذ في الابتدائي، كنا نجده عتيقا أكثر مما يجب. السبب في ذلك اسمه: مصطفى لطفي المنفلوطي، ثم صورته المرفقة باسمه والمطبوعة دائما على غلاف كتابيه «النظرات» و»العبرات» اللذين كانت المدرسة تطلب منا شراءهما لمزيد من الإفادة.
في ذاك العمر يكون التلاميذ شديدي الحساسية، أو شديدي الملاحظة، تجاه ما يشذّ عن السمت الذي يصنّفونه عاديا. طه حسين مثلا لم يحفظوا منه إلا نظارته، حتى أنهم ظلّوا، إلى ما بعد تجاوزهم عمر الأربعين، يقولون عن كل من يشاهدونه مرتديا النظارات، إنه طه حسين. أما المنفلوطي فكانوا يرونه في صورة العُمْدة الذي عرّفتهم به الأفلام المصرية، أو في صورة المأذون الذي كان مخرجو تلك الأفلام يميلون إلى جعله شخصية كوميدية.
كنا نقول إن المنفلوطي ليست له الهيئة التي يجب أن يكون عليها الأديب، مقارنة بجبران خليل جبران مثلا، الذي كان حاضرا هو أيضا في عالمنا الأدبي المبكر. كان جبران بارعا في اتخاذ الأوضاع الرومنطيقية أمام الكاميرات، وذلك ابتداء من صوره الأولى، أي أنه كان يجهد بأن يكون رسمه الفوتوغرافي مستخلَصا من أدبه الموغل في حزنه وقلقه وحيرته.
أما المنفلوطي فظلّت هيئته في زمن الما قبل، ظانا أن أدبه يستطيع القيام بكامل المهمّة وحده. صورته المذكور عنها أعلاه تدلّ على ذلك. وها أنني أعود إليها الآن بالكثير من التصفّح بعد أن وجدت على إحدى بسطات الكتب، جزءين من «النظرات» تعودان إلى الطبعة القديمة إياها. هي الصورة نفسها، مقتصرة على إظهار الوجه والصدر. صورة وجهيّة ( face) من تلك التي تلصق على الهوية أو جوازات السفر. ثم زيّ رجل الدين نفسه، أو زيّ العمدة. الأغلب أن المنفلوطي كان في الأربعين حين التقطت صورته هذه، وربما هي صورته الوحيدة طالما أن مَن يعملون على إعادة إحياء الماضي على فيسبوك، لم يفاجئوا متابعيهم بنشر صورة أخرى له.
وقد انتظرنا أكثر من عشرين سنة لنقرأ أن المنفلوطي ليس مثلما كنا نظنّه. فاجأنا الناقد ناجي نجيب في الثمانينيات من القرن الماضي حين نشر مؤلّفه الذي بعنوان «كتاب الأحزان» الذي خصّصه للظاهرة التي سماها «الأنفلوطية». وهي ظاهرة شملت العالم العربي كله وليس مصر وحدها. أما أثرها فيتعدّى تطوير اللغة أو طرائق الكتابة ،لتصل إلى تغيير الذائقة وإحلال مشاعر جديدة لم تكن سائدة من قبل في النفوس، أو في الكتابة على الأخصّ، وللكاتب والناقد إسماعيل أدهم قولة مشهورة عن ذلك: «لقد خفق قلب جيل كامل من دمشق إلى فاس لدى قراءة مجدولين» الذي ألّفه، أو ترجمه، أو ألّفه مترجَما المنفلوطي. صحيح أن الشعر والنثر العربيين لم يخلوا من التعبير عن الحزن، ففيهما فصول من الحزن الفاجع قرأناها في الرثائيات، كما في قصص الشعراء وبينها ما أصاب قيس بعد إبعاد ليلى عنه وتزويجها لسواه. لكن حزن المنفلوطي، الجديد والمختلف، تمثّل في ما قالته إحدى قارئاته (الناقدة مي زيادة) بأننا، لأول مرّة، عرفنا «الحزن السعيد» أو «الحزن الجميل». ومما قاله أحد رجال الدين من منفلوط، مسقط رأس الكاتب، أنه، فيما كان يقرأ «تحت ظلال الزيزفون» وجد نفسه سعيدا فيما كانت دموعه تنهال غزيرة على خدّيه.
إزاء النجاح الكاسح الذي حقّقته كتابات المنفلوطي من الطبيعي أن يقف ضدّ تياره أدباء كبار من بينهم طه حسين وإبراهيم المازني وعباس محمود العقّاد. اتهامات كثيرة وجهت له من بينها السطحية والدعوية وإثارة العواطف بلا طائل، لكن ذلك لم يوقف إنجذاب القراء إلى أدبه. لكن من جهة أخرى وجد أدب المنفلوطي مؤيدين بين كتّاب وشعراء معروفين آنذاك كان منهم إبراهيم ناجي وعلي محمود طه وأبو القاسم الشابي. أما اتساع أفق جمهور قرّائه فيعبّر عنه ناجي نجيب نفسه، وذلك بإضافته إلى العنوان الرئيسي لكتاب الأحزان عنوانا فرعيا هو: فصول في التاريخ النفسي والوجداني والاجتماعي للفئات المتوسطة العربية».
ملاحظة أخرى لافتة للنظر، وهي أن المنفلوطي الأزهري، الذي لم يلتحق بمدرسة أهلية أو حكومية (وهو لم يحصّل ربما أي شهادة مدرسية) كان ناقل الرومانطيقية الغربية إلى القراء العرب، مع أنه لم يكن يجيد اللغة الفرنسية التي نقل منها كل ما كان يُطلق عليه صفة «ترجمة» بل كان أحيانا يحوّل المسرحيات في ترجمته إلى روايات. في التعريف به، مهما كان موجزا، لم يفت المعرّف أن يقول إن المنفلوطي كان يستعين بالآخرين يحكون له ما في الرواية، أو القصة القصيرة، أو المقالة، فيعمد هو، لا إلى ترجمتها، بل إلى تأليفها، بعربيته التي لم يفت أيّ من متناوليه أن يجزل لها المديح البالغ.
من أيام السرتفيكا لم نعد مرّة واحدة إلى المنفلوطي، ذلك حال دون أن نتابع تردّدات تلك الموجة العالية التي أثارها، لكن في حال تذكّرنا المتنبّي ومَن حوله من الحسّاد، لن يخطر لنا إلا أن نقول إن حسّاد المنفلوطي، أو المستخفّين بأدبه، انتصروا عليه إذ حظوا ببقاء لم يحظ به هو.
كاتب لبناني