1
شيء شفيف مثل ندف الثلج، يندفق في الأروقة الصغيرة فيوقظ الفراشات، وتفتح له الملائكة شرفات الغرف، وتدب البهجة في الأوردة. ثمة الدهشة بالانتعاش الفاتن، تصطفق الشرايين بسرب من شرارات الثلج. كأن يداً إلهية تهزّ المهد، وترتعش الأجراس الصغيرة الكسولة لفرط الانتظار. انتبهت الكائنات لحركة المجرة الجديدة. ثمة هواء زائر يطرق الأبواب والنوافذ، ويطلق العطر المُسكر في المنعطفات والمداخل. هواء قديم، تأخر وبخلت به الطبيعة واحتفت به العربات المنوبة. تستقبله الآن غرف القلب، يحتفي به البهو، وتحتفل به آلات الفرح.
2
جسدٌ برمّته يستعيد ذاكرة أعضائه، ويجسّ نوابض المفاصل ويرخي للفرائص لكي تبدأ العمل. هذا هواء عليل يشفي فهارس المرض، وبخلّص القلب من أسره. أسرُ الذي يصدّه عن الحفل الكامل، والسهر الكامل، والعشق حتى الأقاصي.
3
قلبٌ أتعبه الولع، آن له أن يتدلّه حتى الشغف، فهذا هو الهواء القديم. يدبّ في الدم. ويوقظ النائم في الوقت، والعاجز في المرض، والموغل في كسر الصبر. جسدٌ برمَّته يتذكر الخرائط والفهارس والمعاجم وآلات الطاقة الكامنة. فلا يقصر عن الآلهة، ولا يتأخر عنه الحب.
4
على قلبها، ينحني الأخضر الغضُّ،
يعصف الشجر المنتشي بالرذاذ الرهيف،
على قلبها
يهتف البيلسان الخفيف.
فرحٌ غامرٌ
يهب الحب ألوانه
وعنوانه
ويجتازنا بالهواء الكثيف.
وهي، في هديها،
في القصيّ، القصيّ من العين وهي نشوانة
تحتفي بالهواء اللطيف
على قلبها
مثلما تستعيد الطبيعة أوانها، شجراً شجراً
واحتمالات ما لا يصدّق بعد الخريف.
يهطل العطر في صيفه.
5
شرفتنا على الله. نضع لديك سلالنا كلها، ملؤها ريش النشيد المتهدج، وفواكه المديح، زاخرة بأطيب التوابل المحفزة لعواطف التأويل. ونضع أحداقنا المذهولة في حافة الشرفة، شاخصة في مواقع أحلامك، مستكشفة أكثر الملائكة بكورية في طليعة كشافيك. وهي قادمة إليك، مبعوثة من الزرقة الشاهقة، وهي تستجيب لأمنياتك الكريمة، وصلواتك البارئة. تهبين بها العافية لرعيتك المنتظرة، المتضرعة، مصطفة تحت الشرفة الحانية. تتقبلين منها العطايا، لتعود إلى حياتها، وحيويتها بسلالٍ مكنوزة بما يجعل الصلاة في الناس، هواء الحب.
6
توقد شمعة، مثل نذر توفيه في حضرة الخضر. تنوي أنه لإضاءة قلب شخصٍ تحبه. فتسمع بيتهوفن يعزف لك كونشيرتو النسيان. لكأن الصالة ضرب من نسيان الله في كنيسة.
تسعى وحدك
تصلي وحدك
تضيء الشمعة وحدك
وتسمع كونشيرتو النسيان وحدك
وتنسى الجميع.
7
تخرج وتختار أقرب رصيف مصادفة بجانب الكنيسة المكسورة. إذا كنت قد زرت المتحف الصغير في ما تبقى من قديم الكنيسة، ستعرف درس الحرب الذي يبقيه الألمان ليصدّ النسيان في الأحفاد. لئلا ينسوا الحرب، درسٌ هو لتحصين الحرب في الذاكرة. بدون استعادة الحرب أو التسامح مع تكرارها. درس يتفنن الألمان تلقينه لأجيالهم اللاحقة. ولمن يتفضل بزيارتهم من العالم، أن يفهم من الدرس، أن الله لا يحمي منازله، أو هو لا يقوى على ذلك في الحرب العمياء الخرساء الصماء. درس لا يشمله النسيان ولا يطاله. سترى في ذلك المتحف الصغير، آثار الحرب مصورة، تشي بأحد أجمل معالم العمران، فيما لا ينجو من قصف القنابل الفتاكة. درس، هو في العمق، يريد أن يقول لنا: ليس للبيت ربٌ يحميه من عباده، فعندما ينهال جحيم الناس ينسون الله وعباده الصالحين، بدون أن ندرك بجانب من يقف الله في هذا الجنون، ومن سيحمي البشر المستضعفين كلما اشتعلت الحروب في الكون.
8
ها أنت على الرصيف، فما عليك إلا أن تجلس، وسترى العالم يمرّ عليك. كل أجناس البشر، يعبرون على مكانك في رصيف العالم، وعليك فقط أن تحصي تلك الخطوات المضطربة المذعورة، وهي تمرّ متسارعة نحو المهمات الغامضة. غير أنها ستظل، مهما بالغت في سرعتها وفرارها، وكأنما هي مأسورة في قيدٍ يراوح بين القلب والأمعاء. ولهذا كانت المعدة بيت الداء، فربما يكون القلب رأس الدواء.
9
يا سماء من حزن يانع. لكي أرسم لك لقلبي. ما لون شخص يمحوك من كتابه، ويؤثث بك ممرات الكون، خشية أن يشملك نسيان الناس.
10
يصعد بك بيتهوفن مازجاً الناس بالطبيعة، مزوّجاً وحدة الشجرة بوحشة الغابة.
11
«يا لشدة ألمي عندما يسمع أحد بجانبي صوت نايٍ لا أستطيع سماعه، أو يسمع آخر غناء الراعي، بينما لا أسمع شيئاً»، لكنه يعالج يأسه بالموسيقى. هل كان يعيد تشكيل ما لا يسمعه بالطريقة التي يحب أن يسمعه بها، ويقترحها على الآخرين، لكي يقول إنه يقدر على مضاهاة الطبيعة في الخلق والابتكار والتخيل؟
12
تسأل الحركة في شارع (كودم)
– أين تذهبين أيها الحياة؟
فتسمع نشيش جلد بشري رطب يتقصف تحت جمرة وارِية.
– أين تجدين مواقع أقدامك التالية؟
– فتهب في وجهك ريحٌ باردة، مشحونة بشهوات طريّة، مثل الشهيق:
– ليس أن أعرف أين، المهم أن أذهب.
هذه هي حركة السيمفونية التاسعة التي كانت ضربة تنهر الحياة، وتوقظ الإيقاع الكونيّ، لئلا يقال إن مبدعاً مَرَّ على حياة هامدة ولم يقل لها الكلمة.
13
يطير في هواء. طيفٌ طائفٌ تشعر به ولا تلمسه ولا تراه. تحسّه وتسمع هسيس نسغه في شرايين نافرة محتقنة لفرط الصمت. غير أن موسيقاه قادرة عليك. لخطواته أجنحة، وريشه يشي بعصف وشيك.
14
سلامٌ أيها القدر، يا هواء الروح. ها أنت تطرق الباب على كون هامد. كيف توقظ ما ليس نائماً ل يريد أن يصحو؟
وحيدٌ،
هادئٌ،
رهين الصمت، وأجراسه في عنق سماءٍ عليلةٍ.
شاعر بحريني