يجادل البعض في هذه الأيام في أن النظام العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأن العالم على موعد مع نظام جديد، يوصف بأنه متعدد الأقطاب، تزاحم فيه الصين وروسيا والهند أمريكا على القيادة العالمية، وفي انتظار النهاية الأكيدة والبداية المؤكدة، تنطلق كل الشرور والضغائن والأحقاد من صندوق باندورا، هذه الشرور توحي بأن جديداً ما سيحدث تحت الشمس، على حد التعبير الدارج.
إن الكلام أعلاه ليس رجماً بالغيب، وليس مستبعد الحدوث، كما أنه لا يحتاج إلى دليل قوي كي يدعمه أو يثبته، فأي نظام مهما بلغ من قوة، سيأتي يوم يضعف فيه، ويكتب نهايته، نتيجة تفاعل عوامل داخلية، أخطاء، ضعف، فشل، حروب.. مع أخرى خارجية (ظهور قوى خارجية بلغت من القوة، ما يجعلها قادرة على مزاحمة القوى المسيطرة)، هذه العوامل ستسهم في انهياره، والنظام القائم لا يمثل استثناء في هذه القاعدة، ولعل ما يجرى الآن من أزمات وفوضى يؤكد هذا الأمر. لكن التساؤل الذي ينبغي طرحه هو: هل سيختلف النظام الجديد الموعود عن القديم المقبور؟ أم هل سيكون نسخة منه وامتداداً له؟
من المؤكد، أن العرب لم يعيشوا الحرية مثل الغربيين، إلا أن الأمل يحدوهم بغد تشرق فيه شمس الحرية، لكن، من شأن عودة الديكتاتورية أن تقتل ذلك الأمل
قبل الإجابة عن هذا السؤال، ينبغي الإشارة إلى أن هذا النظام، سواء بنسخته الأولى، الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) إلى سقوط جدار برلين سنة 1989. في هذه الفترة تحكمت الثنائية القطبية في العالم، المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، كلا المعسكرين كان يريد السيطرة، لذلك عملا على تصدير نموذجيهما الأيديولوجيين في السياسة والاقتصاد والثقافة إلى بقية العالم، حيث شهد العالم في هذه الفترة ما اصطلح عليه بـ«الحرب الباردة»، بسبب تكافؤ القوى، بالأخص امتلاكهما للسلاح النووي، غير أن هذه الحرب الباردة كانت ساخنة في العديد من المناطق، من المؤكد أنه كان لأمريكا بصمتها، وللسوفييت إمضاؤهم في هذه النزاعات الساخنة: حرب فيتنام، أزمة كوبا، حرب أفغانستان.
لقد كانت وعود هذا النظام مثالية جداً: السلام، التعايش، الحرية، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية.. لأنها، ربما، جاءت بعد تجربة مريرة من الحرب (الحرب العالمية الثانية 1939- 1945)، إذ كانت فاتورتها باهظة وكبيرة جداً، بالنظر إلى الدماء التي أريقت، وحجم الدمار الذي حصل، وربما كذلك، وهذا هو الأهم، لأن العالم تتحكم فيه قوتان متنافستان، كل واحدة منهما تحاول إغراء أتباعها بشعارات براقة، وبوعود مثالية. لم تتحقق هذه الوعود، للأسف الشديد، لأن كلا النظامين أراد الهيمنة والسيطرة، فكانت النتيجة أزمات هنا، وحروبا هناك؛ سباق تسلح، شمالا غنيا متقدما، وجنوبا فقيرا متخلفا، كُلّلت في الأخير بانتصار النموذج الرأسمالي الليبرالي على الشيوعي (من هنا تبدأ النسخة الثانية من النظام)، بعد هذا الانتصار انطلقت الآلة الإعلامية الغربية للتسويق للنظام المنتصر، معتبرة إياه بأنه «نهاية التاريخ»، حسب التعبير الساحر لفرانسيس فوكوياما، وأن الإنسان الأمريكي أو الغربي هو خاتم البشر، واعدة البشرية بأن زمن الحروب والصراعات قد ولّى وأنها، أي البشرية، إذا ارتضت ركوب القاطرة الأمريكية فستكون، بلا شك، على موعد مع السلام والحرية والسعادة في الفردوس الأمريكي. لم يكد يمر وقت طويل على النظام الأمريكي، المنتشي بالانتصار والتفرد، حتى ظهر على حقيقته، إذ انتقلت أمريكا مباشرة إلى مرحلة الحسم بالقوة، لأجل تصدير نموذجها إلى بقية العالم، متوعدة من يعارضها بالخروج من التاريخ، ولقد حققت ذلك بالفعل في كل من العراق وأفغانستان والصومال، حيث أخرجتهم من التاريخ بالفعل، لما شنت عليهم حرباً عنيفة وظالمة.
نظام جديد قديم
في الحقيقة، ليس هناك اختلاف كبير بين النظام القديم الذي انتهى، والنظام الجديد الذي ولد، فمع مرور الأيام اكتشفت الشعوب أن الوعود المقطوعة من قبيل الديمقراطية والحرية والحياة السعيدة، ما هي إلا شعارات زائفة لإغراء الجماهير التواقة للديمقراطية، والعطشى للحرية، كما اكتشفت، في ما اكتشفته، أن مساحة المناورة قد تضاءلت كثيراً في ظل العصر الأمريكي «من لم يكن معي، فهو ضدي»، كما قال جورج بوش الابن، ومن ثم، فأمريكا بناء على هذه الرؤية لا تقبل إلا الخضوع لسيطرتها والقبول بهيمنتها.
نظام جديد
اليوم، بعد الحصيلة الفاشلة لأمريكا سياسياً واقتصادياً، يرافع البعض من أجل نظام عالمي متعدد الأقطاب، يضع حداً للغطرسة الأمريكية، وينهي نظامها أحادي القطب، الذي زرع الفوضى والإرهاب، ولم ينتج سوى الصراعات والأزمات، النظام الجديد الموعود سيكون، حسب هؤلاء، جديداً بحق، إذ يشكل قطيعة مع السابق؛ فهو سينهي الاستكبار الأمريكي، وسيضع حداً للإرهاب والحروب، ويفتح آفاقاً جديدة في التنمية والبناء والتعاون بين الشعوب، وينشر فضائل السلام بين الدول. النظام المتعدد الأقطاب، سيكون عموده الاقتصادي الصين، بينما عموده العسكري هو روسيا، التي تقاوم وحيدة المشروع الأمريكي في الهيمنة على حدودها مع أوكرانيا، وبهذا ستُعزل الولايات المتحدة أكثر، وتصبح الملفات العالمية خاضعة للتفاوض بين هذه القوى، لا إلى نزوات الانفراد الأمريكي، ولا إلى مساومات الموائد الغربية. غير أن السؤال المطروح هنا هو: هل يحقق هذا النظام آمال الشعوب في الحرية والعدالة والسلام؟
تحالف الديكتاتوريات
على الرّغم من مشروعية المقاومة والرفض العالمي للهيمنة الأمريكية على العالم، نتيجة إساءة أمريكا لاستعمال القوة، وتشويهها للقيم الغربية، كالديمقراطية والحرية والعدالة، وكذا لحجم المظالم التي سببتها سياستها الأحادية في العديد من الدول، سواء أكانت قريبة منها، أي، التي تعتبر من صميم أمنها القومي، أم كانت بعيدة عنها، التي تعدُّ من صميم أمنها الاستراتيجي، غير أن كل ذلك، لا يبرر، بأي حال من الأحوال، أن يرتمي العالم في أحضان الديكتاتورية المقيتة، التي تسعى كل من الصين وروسيا إلى إحيائها من جديد في هذه الأيام. ذلك أن النموذج الصيني والروسي هو نموذج ديكتاتوري شمولي، الرأي الأول والأخير فيه، إما يعود إلى الحزب، كما في الصين، وإما يرجع إلى القائد الأوحد، مثلما هو حاصل في روسيا، لهذا يسارع حكام العرب إلى عقد تحالفات مع مثل هذه الأنظمة، لأن سياستها توافق رغباتهم، وتلبي شهواتهم في السيطرة على شعوبهم وإخضاعهم.
إن عودة الديكتاتورية إلى العالم، معناه تقويض الديمقراطية، وانهيار الحرية، معناه التضحية بالمكاسب المحققة، وانتصار للأفكار المتطرفة في العالم كله؛ مع مرور الأيام سيبدو لنا العصر الغربي على علاته وبشاعته عصراً ذهبياً مقارنةً بالعصر الذي ستنتصر فيه الديكتاتورية. من المؤكد، أن العرب لم يعيشوا الحرية مثل الغربيين، حتى يشعروا بالخوف من «مستقبل دون حرية»، على الرّغم من ذلك، كان يحدوهم أمل في غدٍ ستشرق فيه شمس الحرية، لكن، من شأن عودة الديكتاتورية أن تقتل حتى ذلك الأمل.
كاتب جزائري