عودة «اللعبة الكبرى» بين لندن وموسكو

تتزعم بريطانيا العالم الغربي في انتقاد ومواجهة روسيا في حربها ضد أوكرانيا، ولم يتردد رئيس حكومة لندن بوريس جونسون في زيارة كييف في عز هذه الحرب، لدعم الأوكرانيين. وتعد بريطانيا الدولة الأكثر استقلالية تجاه روسيا مقارنة مع باقي الدول الأوروبية، ما يخول لها لعب دور الريادة في مواجهة مخططات الكرملين في القارة العجوز.
ويتابع الكثير من المراقبين باندهاش كبير السياسة البريطانية الصارمة تجاه روسيا خلال السنوات الأخيرة، التي بلغت ذروتها إبان الحرب الحالية التي تشنها موسكو ضد أوكرانيا، بمبرر منع هذا البلد من الانضمام إلى منظمة شمال الحلف الأطلسي، وحتى لا تشكل خطرا على الأمن القومي الروسي مستقبلا.
وكان لافتا اتخاذ لندن عدد من المبادرات القوية في مهاجمة موسكو، ويمكن إبراز أهمها في: مصادرة ممتلكات أغنياء روسيا بعدما كانوا قد وجدوا في لندن «الجنة المالية» المطالبة بطرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان ومن عضوية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، التنسيق بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة لإرسال الأسلحة إلى أوكرانيا، ثم إرسال عناصر القوات الخاصة البريطانية لتدريب القوات الخاصة الأوكرانية على حرب الكوماندوز. وكانت لندن هي التي طرحت خلال يناير/كانون الثاني الماضي عقوبة إقصاء روسيا من النظام المالي العالمي سويفت. ويمكن تفسير الموقف البريطاني بمعطيات اقتصادية وسياسية ذات بعد جيوسياسي، ثم الصراع التاريخي الذي اندلع في القرن التاسع عشر ويستمر حتى وقتنا الراهن، إذ شكل هذا الصراع خاصة في القرن العشرين وحتى يومنا هذا فصلا أو حلقة خاصة ضمن إطار الحرب الباردة. في هذا الصدد، تعد بريطانيا في هذه الحرب، ذات موقف متصلب تجاه روسيا مقارنة مع باقي الدول الأوروبية باستثناء بولندا، إذ بينما تلتزم فرنسا وألمانيا وإيطاليا وكذلك إسبانيا نوعا من الهدوء ومحاولة التوفيق بين المشاركة في العقوبات ضد روسيا والحفاظ على جسر الحوار، تتزعم لندن العقوبات ضد الكرملين. ويعود هذا إلى عدم ارتهان بريطانيا بشكل كبير إلى الغاز والنفط الروسي. وتستورد بريطانيا 5% فقط من احتياجاتها من الغاز من روسيا، وهي نسبة محدودة قادرة على تعويضها من السوق الدولية، خاصة من قطر والنرويج والجزائر. كما لا تتجاوز وارداتها من النفط الروسي 8%، علما أن العثور على النفط في السوق الدولية سهل للغاية مقارنة مع الغاز. وكان وزير الأعمال والطاقة البريطاني كواسي كارتنغ قد أكد خلال مارس/آذار الماضي، أن المملكة المتحدة ستوقف واردات النفط الخام والمنتجات البترولية الروسية بحلول نهاية عام 2022 ردا على «الغزو الروسي لأوكرانيا». ومن جانبها، أكدت شركة «شل» البريطانية العملاقة للنفط خلال الشهر الماضي، أنها تعتزم الانسحاب من قطاع النفط، والغاز الروسي، ووقف جميع المشتريات الفورية للنفط الخام الروسي، في خطوة أولى حاليا. وعلاقة بالتاريخ، لا يمكن فهم المواقف البريطانية المتشددة ضد روسيا، من دون العودة إلى التاريخ. لم تكن بريطانيا خلال القرن التاسع عشر تعتبر الدول الأوروبية الخطر المحدق بنفوذها، بل كانت ترى الخطر مجسدا في روسيا القيصرية. ولهذا، شهد القرن التاسع عشر حربا باردة من نوع مثير تعرف في التاريخ بـ»اللعبة الكبرى» حيث سعت بريطانيا إلى منع روسيا من الوصول إلى الهند وإلى البحر الأبيض المتوسط، وجعلت من أفغانستان حاجزا في آسيا ومن الإمبراطورية العثمانية حاجزا في البحر المتوسط. وتخللت هذه المرحلة منافسة وحروبا أبرزها حرب جزيرة القرم ما بين سنتي 1853-1856. ولم تهدأ المواجهات بين البلدين طيلة القرنين الأخيرين، من عناوينها حرب الجواسيس ومنها «جواسيس كامبريدج» والاغتيالات الكبرى بين الطرفين، لاسيما التي كانت بريطانيا مسرحا لها وآخرها تسميم الضابط الروسي سيرغي سكريبال.

تعتقد بريطانيا أن استقلالها عن موارد روسيا وإرثها التاريخي يجعلان منها «الحارس الروحي للغرب» في مواجهة من تصنفهم الأعداء وعلى رأسهم روسيا

ويبدو أن السياسة البريطانية ضد روسيا هي خلق نوع من التوازن في مواجهة الثنائي الصين – روسيا. وتعد لندن عضوا رئيسيا مساعدا للولايات المتحدة في محاصرة النفوذ الصيني في العالم. والبداية مع الدور الذي لعبته في إقناع أستراليا للتخلي عن صفقة الغواصات الشهيرة مع فرنسا الصيف الماضي، والرهان على الغواصات الأمريكية وتشكيل حلف «يوكوس» بين الدول الثلاث لمحاصرة النفوذ الصيني في منطقة الهندي – الهادي. وتتجلى الرؤية الجيوسياسية البريطانية في ضرورة إضعاف الثنائي الآخذ في التشكل ـ الصين – روسيا، وذلك بعدم فتح المجال له للتركيز على المحيط الهادي، بل ضرورة جعل روسيا منشغلة بالواجهة الغربية الأوروبية. كما أن هذا الإضعاف يدخل ضمن التصور البريطاني بإضعاف محور الدول غير الديمقراطية حتى لا تسيطر على العالم. وعندما وضعت بريطانيا استراتيجيتها الجديدة للتموضع في العالم بعد البريكسيت، وجدت أن «العدو المنافس» هي روسيا، لأن هذه الأخيرة تعمل على تعزيز نفوذها في البحر الأبيض المتوسط وأوروبا، لاسيما عسكريا، وهي مناطق نفوذ بريطانية بامتياز. وترى في روسيا مصدر خطر أكبر من الصين بسبب قربها الجغرافي من قلب أوروبا، ثم قوتها العسكرية ومخططات الكرملين لبسط نفوذها في أوروبا، في حين تبقى بكين خطرا اقتصاديا الآن وخلال الثلاثة عقود المقبلة. وعليه، إذا كان البلدان قد خاضا صراع «اللعبة الكبرى» في القرن التاسع عشر، فكل المؤشرات الحالية تدل على عودة هذا السيناريو في ثوب جديد خلال القرن 21، ولا يتعلق الأمر هذه المرة بآسيا بل بالقارة الأوروبية وبالبحر الأبيض المتوسط. وتعتقد بريطانيا أن استقلالها عن موارد روسيا عكس دول أخرى، وإرثها التاريخي يجعلان منها «الحارس الروحي للغرب» في مواجهة من تصنفهم الأعداء وعلى رأسهم روسيا.
كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صالح/ الجزائر:

    يا ليتها كانت ، مقارنة مع باقي الدول الأوروبية ، الأقل استقلالية تجاه روسيا ، على أن تكون “جروا” مجرورا في يد أمريكا ، وبئس الريادة في مواجهة مخططات الكرملين الدفاعية ، عن فدرالية روسيا ، ضد المخططات الإجرامية الأمريكية الهجومية لتدمير روسيا والتكفل فيما بعد بالصين .

  2. يقول S.S.Abdullah:

    بريطانيا، بلد التسهيلات القانونية أم بلد الممنوعات القانونية أم هي بلد إقامة المافيا أو ممثلي اللا دولة أو اللا أسرة، على أرض الواقع؟!

    هو أول ما خطر لي عند قراءة ما نشره الأكاديمي المغربي د حسين مجدوبي تحت عنوان (عودة «اللعبة الكبرى» بين لندن وموسكو)، والأهم هو معرفة من هو الأخبث/الأذكى مِن مَن، هنا؟!

    بين بلد الكاتب، أم مفهوم الحياة/اللعبة، أم كيان دولة (لندن أم موسكو)؟!

    كما كانت الحرب مفصلية في عام 1956، لتحديد من يتحكم في طرق المواصلات، من خلال (قناة السويس)، كانت علامة فارقة، لمن يتحكم في الإقتصاد العالمي، في أجواء سوق العولمة،

    كان نجاح الإنقلاب في (كوبا) عام 1959، أو إقتصاد عقلية اللا دولة (المافيا)، في إنتشار مفهوم دولة (اللا دولة) أو (لاس فيغاس)، أو أسلوب (هيئة الترفيه) السياحة، كداينمو عملية جذب المقامرين/المغامرين، إلى الزيارة، وربما تتطور إلى الاستثمار بعد ذلك، في السكن أو الإنتاج،

    لكن روسيا الدولة، بعد تفتيت الإتحاد السوفييتي في عام 1992، أصبحت هي دولة المافيا الوطنية، فلذلك حتى الغش/الفساد/التحايل، كان في الرياضة، والدليل أولمبياد طوكيو في عام 2020 وأولمبياد بكين في عام 2021، لم تجد العلم الروسي، بسبب ذلك؟!

  3. يقول S.S.Abdullah:

    ولذلك الآن كل الدول، وليس فقط (سوريا) أو (الكيان الصهيوني) أو (إيران)، إقتصاد الدولة، يعتمد على التجارة في كل شيء ممنوع/مغشوش/فاسد، الإختلاف في النسبة فقط للعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله

    ودليلي الأهم هو موضوع نجاح هروب من اليابان (كارلوس غصن) والعيش في لبنان، ونجاح هروب من قصور الإمارات العربية المتحدة (الأميرة هيا بنت الحسين) والعيش في بريطانيا، وصدور حكم طلاق وتعويضات بمئات الملايين، بلا أي إحترام إلى أبسط معاني مفاهيم (الأسرة الإنسانية) من أي دين، بعيداً عن (لغة القرآن وإسلام الشهادتين) ولا حول ولا قوة إلا بالله، أليس كذلك، أم لا؟!.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية