كيف يمكن تصور السياسة العربية للمرشح الفائز في انتخابات الرئاسة المصرية الجارية، خاصة أن المؤشرات كلها تشير إلى فوز هائل وارد للسيد عبد الفتاح السيسي؟
ربما يلزم التمييز ـ من البدء ـ بين معنى السياسة العربية ومعنى السياسة الخارجية لمصر، صحيح أن التداخل وارد، لكن التمييز في المجال يبقى مستحقا، فالسياسة العربية لمصر سياسة داخلية تماما، وفي زحمة الدساتير العربية الجديدة، يبدو الدستور المصري الجديد هو الأكثر صراحة ووضوحا في بيان الهوية القومية للبلد، ففي دستور مصر الصادر سنة 1971، وقت أن كانت اختيارات عبد الناصر لاتزال تحكم رسميا، كان النص في المادة الأولى على أن ‘الشعب المصري جزء من الأمة العربية يسعى لتحقيق وحدتها الشاملة’، وهو النص الذي اختفى في طبعة دستور 2012 المعروف إعلاميا باسم دستور الإخوان، وبعد الموجة الثورية الأعظم لثورة يناير في 30 يونيو/حزيران 2013، وإزاحة حكم الإخوان، وإجراء تعديلات دستورية جوهرية، جرى الاستفتاء عليها في يناير/كانون الثاني 2014، عاد النص القومي العربي إلى الدستور، في الديباجة وفي المادة الأولى، وإن تعدلت ألفاظه قليلا، وصار النص كما يلي ‘الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل لتحقيق تكاملها ووحدتها’، وهو نص بلا مثيل في وضوحه وقطعيته القومية، فدستور تونس بعد الثورة ـ مثلا ـ يصف بلده بأن ‘لغتها العربية ودينها الإسلام’، رغم أنه لا وجود لقومية أخرى غير العربية في تونس، ولا وجود لدين آخر غير الإسلام، ومع ذلك جاء النص باهتا خجولا مترددا، وعلى النقيض بالضبط من وضوح الدستور المصري في بيان الهوية القومية والحضارية، وقد ذكرنا نص المادة الأولى التي لا يوجد نظير لها في أي دستور لبلد عربي. وفي المادة الثانية من الدستور المصري، يعاد التأكيد المضاف على الهوية، فالمادة تنص على أن ‘الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع’، ونحن لا نذكر هذه النصوص في سباق من التنابز بالألقاب وبالدساتير، بل لبيان قوة الحضور العربي في هوية مصر، وغلبته الساحقة على ما عداه، وارتباط العروة الوثقى بين عروبة مصر وإسلامها، وبدون إغفال وجود مميز للمسيحية كدين في مصر، وإن كان الإسلام كثقافة هو عقيدة كل المصريين، فقد كان مكرم عبيد ـ أشهر سياسي مسيحي مصري ـ يقول ببساطة ‘أنا مسيحي دينا مسلم وطنا’، ويبدو هذا الاستطراد ضروريا لبيان معنى امتياز السياسة العربية لمصر، فالعروبة ليست رداء نخلعه أو نلبسه عند الحاجة، كما كان يقول جمال عبد الناصر، بل العروبة هي صميم الوجود المصري، ولم تضعف عروبة مصر إلا في لحظات انهيارها وانحطاطها التاريخي، وكما جرى بالضبط في الأربعين سنة الأخيرة، بينما عودة الروح إلى مصر تعني عودة العروبة إلى صدارة سياستها، دونما أدنى تناقض بين المصرية الوطنية والعروبة القومية، فمصرية مصر هي ذاتها عروبة مصر، وهو ما يفسر عودة النص القومي العربي الساطع إلى صدارة الدستور المصري مع إفاقتها الجارية من غيبوبة الأربعين سنة، وما يفسر ـ أيضا ـ عودة اسم جمال عبد الناصر كمرجعية سياسية وتاريخية لحوار الفرقاء الوطنيين المصريين، وتحولها إلى قاسم مشترك لدعاية المرشحين الرئاسيين، عبد الفتاح السيسي وحمدين صباحي، وربما لا يشذ عن القاعدة سوى جماعات ‘أممية’ و’عولمية’ من ليبراليي المارينز وتيار اليمين الديني، التي جهدت لإلغاء أو تمييع النص على عروبة مصر، والتزامها القومي في طبعة دستور 2012.
وإذا فاز السيسي بالرئاسة كما هو مرجح، فسوف تكون عودة مصر إلى التصالح مع اسمها ودستورها الناطق بهويتها القومية، وسوف تكون مصر ‘عربية’ بامتياز. صحيح أن الأولوية والغلبة ستكون لمشاكل ومعضلات الداخل المصري، وهو ما يعني ـ بالضبط ـ غلبة وأولوية للسياسة العربية، فمصر هي البلد العربي الوحيد، ولاعتبارات الثقافة والجغرافيا والتاريخ والثقل الحاسم، هي البلد الوحيد الذي لا يكون انشغاله بداخله انعزالا عن المجموع العربي، فمصر هي ‘الدولة النواة’ للمعنى العربي الجامع، وتواريخ صعود مصر هي ذاتها تواريخ صعود الأمة، والعكس بالعكس، وعلى نحو ما جرى من انهيارات في مصر بعد حرب أكتوبر 1973، ولحقتها انهيارات متتابعة في أقطار الأمة كلها، وفيما بدت مرحلة الصعود الناصري الاستقلالي التوحيدي ردا تاريخيا على اتفاقية سايكس ـ بيكو الاستعمارية، التي قسمت الأمة إلى أقطار، فإن مرحلة الصعود الجديد تبدو ردا تاريخيا على مؤامرات وخطط الشرق الأوسط الجديد، التي تحطم الأقطار ذاتها، وتقسمها إلى ‘أمم’ طائفية وإثنية، تتيح لإسرائيل دوام الغلبة والامتياز في منطقة عربية مفتتة كنثار من زجاج مكسر، وتخضع العرب لسيطرة النفوذ الأمريكي المعولم، أو لسيطرة دول جوار تتقاسم الغنائم كإيران وتركيا، أو لتيارات إرهاب ملوث تنتحل صفة الدين، وتساعد ‘الغزاة’ الدوليين والإقليميين على تحطيم ما تبقى متماسكا في الوجود العربي، وهو ما يفسر تحطم وتقسيم ست دول عربية إلى الآن، وعلى نحو ما جرى ويجري في العراق والصومال وسوريا واليمن والسودان وليبيا، وليس صعبا أن تلحظ أدوار جماعات طائفية ـ بادعاء ديني ـ في عملية التحطيم الجارية، التي تتطابق في نتائجها بالضبط مع ‘خطة إسرائيل في الشرق الأوسط’ التي جرى نشرها في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، والمعروفة باسم ‘وثيقة أودينون’، التي قدمت رسما كروكيا لتقسيم أقطار المنطقة يطابق ما جرى ويجري، ويستهدف تقسيم المنطقة إلى عشرات من الوحدات الميكروسكوبية الأصغر، ويمحو الهوية العربية الجامعة، ويحل محلها هويات طائفية وإثنية، ولو بأسماء إسلامية مستعارة ومزورة، وهو ما يكشف صلة العروة الوثقى والتساند الوظيفي بين جماعات التفتيت وجماعات الإرهاب المنتحلة لصفة الإسلام، وقد كانت مصر هي ‘الجائزة الكبرى’ في الخطة كلها، وكان مستهدفا تفتيتها، وطمس هويتها العربية الجامعة، لكن يقظة الشعب المصري، وعودة الروح إلى بدنه المنهك بعد ثورة 25 يناير 2011، وما جرى بعدها من انكشاف لحقيقة أوراق تيار اليمين الديني، وصعود الموجة الثورية الأعظم في 30 يونيو 2013، كل تلك التطورات قلبت الموازين في النزال التاريخي المتصلة فصوله على مدى انحطاط الأربعين سنة، وأكدت صحة المعادلة الذهبية، وهي ان إضعاف مصر كان توطئة لتفكيك مناعة الأمة كلها، وان انهيارات أقطار الأمة من حول مصر يزيدها ضعفا، وهو ما يجعل من استعادة الدور المصري عربيا قضية حياة للبلد المركزي وأمته كلها، فمصر هي الصخرة التي لا تتحطم، وتجانسها الثقافي والسكاني الفريد شرط جوهري لرد الاعتبار إلى معنى العروبة الجامعة، وأن تكون مصر أولا ـ بحق ـ يعني أن تكون العروبة أولا، وهو ما يفسر النضج الظاهر في السياسة العربية المتوقعة لعبد الفتاح السيسي حين يصبح رئيسا بإذن الله، فهى لا تبدو حذرة ولا مترددة، على الرغم من طابعها العملي الوظيفي، وسندها الجوهري ـ على ما يبدو ـ هو قوة الجيش المصري أكبر جيوش المنطقة، الذي كسر أحادية الاعتماد على واردات السلاح الأمريكي، وينوع في موارده وصناعاته الحربية، ويبني ‘قوة تدخل سريع’ من مستوى لا يتوافر عالميا سوى للأمريكيين والروس، وقد أعلن السيسي ـ بوضوح ـ استعداد الجيش المصري للدفاع عن أي ‘منطقة عربية مهددة’، والانتقال في لمح البصر و’مسافة السكة’ كما قال السيسي في حواره لفضائية دولية ناطقة بالعربية، فحدود الأمن الوطني المصري ـ عند السيسي ـ تتطابق بالضبط مع حدود الأمن القومي العربي، وتلك ترجمة دقيقة لحقيقة تقول: ان الحدود السياسية لمصر أبعد كثيرا من حدودها الجغرافية، وقد توالت المناورات العسكرية المشتركة للجيش المصري مع السعودية فالإمارات فالبحرين، وفي سياق ما يشبه الحلف العسكري العربي الواصل بخط الردع إلى حدود إيران، وفي ذات الوقت الذي أكمل فيه الجيش المصري بهدوء وثقة حملته في سيناء، واستعاد حق مصر في إلغاء مناطق نزع السلاح المنصوص عليها بملاحق ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وفرض واقعا جديدا على الأرض، وبصورة جعلت حبر المعاهدة يجف ويبهت فوق الورق، وفي سياق عملية مدروسة تفكك تدريجيا جملة القيود المفروضة على القرار الوطني المصري منذ عقد المعاهدة المشؤومة، ثم الأثر ‘الاحتلالي’ للمعونة الأمريكية الضامنة، التي كلما تقلصت زادت حيوية القرار المصري المستقل، واستعاد دوره القيادي في خدمة القضية العربية، ولك أن تلاحظ ـ عزيزي القارئ ـ طريقة رد السيسي على سؤال حول حركة حماس، فقد قال ما معناه أن الخلاف مع حماس لا يجوز له أن يجور على الالتزام المصري التاريخي بالقضية الفلسطينية، أضف ـ من فضلك ـ تقلص التطبيع الدبلوماسي مع إسرائيل، فقد كان رد السيسي قاطعا ذكيا على سؤال حول مدى استعداده للقاء مسؤولين إسرائيليين، كان رده ببساطة أن ذلك لن يحدث إلا بعد استرداد الشعب الفلسطيني لحقوقه، وإقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس، وهو ما يفسر حرص المسؤولين الإسرائيليين الحاليين والسابقين على حث واشنطن لتحسين الصلات مع السيسي، وهو ما يتصوره البلهاء كتأييد من إسرائيل لحكم السيسي، مع أن السبب ظاهر جدا، وهو خوف إسرائيل من تدهور تأثير واشنطن على سير الحوادث في مصر، وهو ما يؤدي عمليا إلى تسارع مكثف في وتيرة عودة مصر إلى خط المواجهة الفعلية مع إسرائيل، وقيادتها لصعود عربي جديد.
وبالجملة، فإن التاريخ لا يكرر نفسه، لكن قانونه الجوهري يظل ساريا، وقانون مصر إذا صعدت واستفاقت يظل هو نفسه، فمصر والعروبة صنوان لا يفترقان .
‘ كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
تحية لك سيد عبد الحليم قنديل . نحن لا نشك فى عروبة مصر الشقيقة بتاتا.
ولكن ضعفها الاقتصادى لا يسمح لها بتحرك بحرية فى قرارتها فدول الخليج مثلا
لا تساعد احدا بالمجان وانت تعرف هذا جييدا.اذا هل يستطيع السيسى تجاوز هذا
المعوق ربما ولكن ليس سهلا .يقول السيسى مسافة السكة يقصد نجدة العرب
فلو مثلا تعرض شمال افريقيا لهجوم غربى لا قدر الله فهل ننام مطمئنين .يا
اخى قنديل اننا نخاف ان نعتمد عليكم ثم نصبح ببلاش على كل حال نحن نحييكم
على هذا الشعور الجميل اتجاه اخوانكم العرب .وعاشت الامة العربية والاسلامية.
لم تنفع العروبة احدا في زمن عبد الناصر بل ضاع من ارض العرب اكثر مما ضاع زمن احتلال الاوروبيين لها. فما الذي سيصلح من عوتها أو عودة العرب لها في زمن يثور فيه الجميع علي منجزات حكام العرب وما اصبح يسمي الاسلام السياسي شوكة في ظهر كل وطن علي حدة. فلا تفسير لمقالة الاستاذ قنديل الا بكونها نوستالجيا لزمن الكلام دون انجاز والحديث دون حقائق.