عودة مصر لمصر

لمصر الميزة التالية بين الأقطار العربية، وهي أن مصرية مصر هي ذاتها عروبة مصر، وأن الوطنية المصرية ليست انعزالية بطبعها، ولو لم توجد القومية العربية فرضا لخلقتها الوطنية المصرية خلقا.
وربما لا يحتاج المرء إلى كثير من استعادة السيرة، حتى تتضح له هذه الحقيقة الكبرى، فحتى قبل الفتوح الإسلامية، التي كانت خطوة التتويج لنشأة الأمة العربية، حتى قبل هذا التـــــاريخ، وقبل فتح عمرو بن العـــــاص لمصر، ثم بدء رحلة التعريب الشامل، التي اكتملت في زمن قياسي، وساهمت فيها الكنيسة المصرية بتعريب صلواتها، وقبل أن يتغير الميزان الديني في زمن جاوز التعريب بقرون، حتى أصبــــح الإسلام دينا لغالب المصريين، واكتملت لمصر شخصيتها العربية، ودورها القـــــيادي، الذي لم تكن فيه أبدا دارا لخلافة، بل كانت هــــي الخلافة نفسها، وحسمت معارك الوجود الكبرى للمنطقة في حروب التتار والصليبيين، ونشأ أزهرها الشريف الجامع الحافظ لإسلام المسلمين، وكانت معارك الوجود الذاتي لمصر، هي نفسها معارك الأمة.
فقد دارت معارك مصر الوجودية الكبرى إلى ما نسميه الشرق العربي الآن، حتى قبل تعريب لسان مصر، كانت مصر تستكشف عروبتها اللاحقة بدواعي وغرائز الأمن والوجود، وهو ما يفسر كيف أن معارك مصر كلها دارت على نفس الميدان، ومن ‘مجدو’ تحتمس، وإلى ‘قادش’ رمسيس، وإلى معارك ‘عين جالوت’ قطز و’حطين’ صلاح الدين، ومعارك إبراهيم باشا ـ ساري عسكر عربستان ـ في الشام والجزيرة العربية، وقد كان الأخير هو مؤسس الجيش المصري الحديث، ونجل محمد علي الألباني، الذي شاءت له الأقدار أن يحكم مصر، ولم يكن يعلم حرفا واحدا في اللغة العربية، لكنه تصرف وتحرك بذات الطريقة، وفي ذات الأقواس التي مشى فيها حكم جمال عبد الناصر بعده بمئة سنة وتزيد، وهو ما يعني أن مصر بإدراكها الذاتي، هي التي تملي قوانينها على حكامها حين تنهض، فحدود مصر السياسية والاستراتيجية أبعد كثيرا عن حدودها الجغرافية، وحين تفرض عليها القيود، كما حدث بتواطؤ اتفاق لندن سنة 1840، ثم بتواطؤ معاهدة كامب ديفيد سنة 1979، فإن مصر تغيب عن مصر ذاتها، وتقع أسيرة لمرض الغياب عن التاريخ، ثم تغيب معها المنطقة والأمة بكاملها، وعلى نحو ما جرى في الأربعة عقود الأخيرة.
وربما يكون مثالا محمد علي وجمال عبد الناصر مفيدين في الدرس والتأمل، فقد شهد العهدان عودة مصر إلى مصر، وشهدا نهوضا كامل الأوصاف، لكن النهوض ـ في الحالين ـ انتكس بضراوة التدخل الخارجي، وبالطبع توجد فروق الزمن والحس الشعبي الأظهر في حالة جمال عبد الناصر، لكن قانون القابلية للانتكاس نفسه ظل ساريا، فالمنطقة ـ وفي قلبها مصر ـ تحاول النهوض تحت حد السيف الغربى، ثم يقطع السيف رأس النهوض، والسبب ظاهر في ظننا، وهو أن النهوض لم يكن محصنا بالكامل، كان النهوض للناس وليس بالناس، وهو الدرس الذي وعته حركة الوطنية المصرية زمن الانقلاب الطويل على ثورة جمال عبد الناصر، والذي تبلور في ما قلناه مبكرا، وهو أننا نريد ثورة الناس الأحرار هذه المرة، لا ثورة الضباط الأحرار، رغم أن الطريق قد يكون أطول مع ثورة الناس الأحرار، وقد يكون المخاض عنيفا، وقد تمضي خطوط السير متعرجة وحلزونية أحيانا، وقد يبدو أنها ارتدت إلى نقطة البدء، وربما إلى ما قبل البدء، وهو ما يفسر مشهد المخاتلات في سيرة الثورة المصرية المعاصرة، التي توالت فصولها من الموجة الأولى في 25 يناير 2011، إلى الموجة الثالثة في 30 يونيو 2013، فالثورة تقوم ولا تحكم، وتبدو مهددة بالإجهاض دائما، وبسبب الفجوة الظاهرة المرئية بين مشهد الثورة ومشهد السياسة، وهو ما يمد ظلا كئيبا على صورة مصر الراهنة، ويوحي بأن شيئا جوهريا لم يتغير، فتغيرات الثورة لا تزال في الشارع لا في السلطة، تغيرات الثورة في نفوس الناس لا في سياسة الحراس، وربما يكون ذلك هو الضمان للتقدم إلى مصر الجديدة، وإن استطال الوقت، فلم تعد مصر كاملة إلى مصر حتى الآن.
وفي مصر الراهنة ألف وجع ووجع، فقد مرت بمرحلة انحطاط تاريخي، غامت فيه العيون، وكادت تنغلق في رقدة الموت، لكن مصر تمرض ولا تموت، وها هي تنهض من نومة أهل الكهف، وتستعيد أسماءها الحسنى، وفي ظل مشهد مختلط إلى أبعد حد، تتكاثف فيه سلاسل القيود، وتتزايد محاولات احتواء الثورة وتدجينها، أو اعتبارها مجرد جملة اعتراضية و’ثورة بارتي’، تعود بعدها الأمور كما كانت، وهو ما يبدو مستحيلا في ظننا، حتى مع تكسر النصال على النصال، فالثورة متعددة الموجات قابلة للانفجار مجددا، ليس لإعادة حكم الإخوان، لا سمح الله، فهذا هو الكابوس بعينه، وهذه هي الثورة المضادة بذاتها، فجماعة الإخوان مجرد نسخة من جماعة مبارك، وما من عودة مستقرة ممكنة إلى حكم الرئيس السابق أو حكم الرئيس الأسبق، حتى إن بدا أن الجماعتين تتناوبان على الحكم بعد الثورة، فآية انتصار الثورة هي كسر هذه الثنائية اللعينة، وآية انتصار الثورة هي الفوز الانتخابي لحزب أو تحالف قريب من روح الثورة، وقد يبدو انتصار الثورة بهذا المعنى مؤجلا إلى حين، وإن كان يحتاج إلى رؤية ثورية أصفى مما يبدو غالبا على مشهدها إلى الآن، فقد يتطلع الثوريون إلى حكم ديمقراطي، وإلى تداول السلطة، لكن الحكم التداولي بذاته لا يعني انتصارا نهائيا للثورة، فهب أن مصر كسبت حكما ديمقراطيا مع بقاء انحطاطها التاريخي، ومع بقاء مصر أسيرة للقيد الاستعماري، وقتها لن تكون الثورة في محلها بالضبط.
الثورة هي علم التغيير الجوهري، الثورة تغيير جوهري للاختيارات الحاكمة، وهو ما يفسر قولنا دائما ان ثلاثية مبارك الملعونة لاتزال تحكم، فلا يصح الحديث عن ثورة انتصرت مع بقاء اختيارات الولاء للأمريكيين وحفظ أمن إسرائيل ورعاية مصالح رأسمالية المحاسيب، وهي الاختيارات التي ظلت تحكمنا بعد الثورة إلى الآن، فليست القصة في تبديل الوجوه، بل في تبديل الاختيارات الأساسية الكبرى، وإحلال ثلاثية الاختيارات الثورية، وهي ـ في ما نعتقد ـ أولوية الاستقلال الوطني والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية، فهذه الاختيارات وحدها هي التي تعيد الطريق لأقدامنا، وتعيد مصر إلى المصريين، وهي التي تعيد مصر إلى سباق التاريخ الذي خرجت منه قبل أربعين سنة، وهي التي تعيد مصر إلى أمتها وإلى عالمها. نعرف أن الأمر ليس سهلا، لكن الثورات تقوم لاجتراح ما يبدو مستحيلا، فسلاسل القيود داخل مصر ومن حولها كثيرة، والبدء ممكن جدا بكسر الحلقة الأضعف في سلاسل القيود، وفتح الطريق لاستعادة الاستقلال الوطني، الذي ضاع كما نعرف مع ثنائية معاهدة السلام والمعونة الأمريكية الضامنة، فقد أدت معاهدة العار إلى نزع سيادة السلاح في غالب سيناء، ثم أدت المعونة الأمريكية الضامنة إلى احتلال مصر سياسيا، ونزع سيادة قرار السياسة والاقتصاد والثقافة في القاهرة، وفي سياق انتهى إلى تجريف طاقة مصر الإنتاجية والعلمية وإفقار غالب أهلها، وهو ما يلقي ضوءا على أولوية استعادة الاستقلال الوطني، وأولوية إعادة صياغة الاقتصاد والسياسة والمجتمع والدولة بالقرار الوطني الذاتي، والحلقة الأضعف في سلاسل القيود ظاهرة، وهي المعونة الأمريكية التي وصفناها من قبل بمعونة المليار مذلة، ونزعم أن اتخاذ قرار بالاستغناء عن المعونة الأمريكية وحل هيئاتها، هو نقطة البدء، ويبدو قرارا بحد أدنى من التكلفة، واتخاذه يبعث شعورا وطنيا وقوميا يستعيد روح ما جرى مع قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس، ويشجع على اتخاذ قرارات أخطر أثرا، تستعيد بها مصر ذاتها المضيعة.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. عامر شطا أستاذ طب الأطفال:

    فى نظرى انها عودة مصر الى الانحطاط فى كل شئ وفى كل مؤسسة وفى كل سلطاتها واعلامها. حتى فى زمن الهزيمة والفقر وانهيار الاقتصاد لم تكن مصر بهذه البشاعة بل كانت لا تزال هناك بقية من ارث القيم والتضامن والرحمة. مصر باختصار شديد لم تكن فى ايدى امينة ولا تزال تنزف و ترزح تحت حاميها وهو نفسه حراميها

  2. يقول نورالدين - تونس:

    انت ترفض حكم الاخوان
    فماذا اذا ما اختاره الشعب ليحكم ؟
    هل ترى ان اسقاطه خارج صندوق الاقتراع يصير واجبا مثل ما فعل السيسي ؟
    ان كان جوابك بنعم و ذلك من حقك فلا تتكلم بعد ذلك في الديمقراطية رجاء

  3. يقول عاطف - فلسطين:

    امين ان اشاء الله

  4. يقول Riad Attar:

    لافضّ آلله فوك أيها ألثوري ألعريق- ماأبلغ كلامك وأعمق مرامك-أحسنت أيها ألكبير

  5. يقول سامح // الامارات:

    ( مصر ) …قاطرة العرب …ونجاحها نجاح للعرب …وضعفها …ضعف العرب .
    مصر كبيرة …بناسها ومساحتها …وتستطيع إستيعاب الجميع بدون
    ( إقصاء أحد ) ……..؟؟؟
    المطلوب من الجميع : الجنوح للسلم والبعد عن العنف والتطرف والعمل معا
    لبناء الوطن …وشكرا .

  6. يقول قارئ:

    ان تكون ناصري لا يحتم عليك كره الاخوان يا سيد قنديل.فالثنائية التي تذكرها دائما في مقالاتك ليس لها علي ارض الواقع من حقيقة وانت تعرف ذالك جيدا.
    الرئيس الذي لم يذكر اسرائيل علي لسانه كان اخواني وهوا الان في السجن والضابط الذي تمجده ويذكرك بعبد الناصر ليس من ترجو فهوا ضابط مخابرات يعرفه الجيش الاسرائيلي اكثر من معرفتهم بعبد الحكيم عامر.
    وعلي قصة موجات الثورة وزلازل وبراكين انا سمعت لك علي الجزيرة في اعظم يوم مرت به مصر علي مدي تاريخها قبل ان يسقط مبارك بايام ان ثورة الشعب المصري هي كغضبة الطبيعة وزلازلها وبراكينها وكانت مقولة اقشعر لها بدني ولن انساها ما حييت ولكني لا استطيع ان اوفق بين نظرتي اليك في تلك الايام العظيمة التي اجتمع فيها الشعب المصري كله ولم يفرق بين اخواني واخواتي ونظرتي لك الان حيث اري الفريق الذي تقف في صفه لا يمثل طموحي لحرية مصر واستقلالها وتطورها بل وناصريتها.
    اتمني منك ان تنظر الي الامور من نظرة ابعد من المناكفات السياسية لتري ان نظام مبارك حكم ولا يزال يحكم وهوا من فرق المصريين بغباء الاخوان ربما فلا تجعلو هذا النظام يفرق المصريين بغباء غير الاخوان هذه المرة.

    1. يقول ياسر- مصر:

      الرئيس الذى لم يذكر اسرائيل على لسانه ارسل خطاب حب و هيام لرئيس الكيان الصهيونى بدلاٌ من ذلك وهذا للعلم

  7. يقول ابوريان:

    لا بد ان تتحرر مصر من كل القيود واولها كامب دفيد وهذه التبعية المزلة لاسرائيل
    وان تقف في خندق الفلسطينيين وتسحب البساط من ما يسمي دول الممانعة التي تقتل وتبيد شعوبها فقط ثم تتفرج علي اسرائيل بئس الممانعة هذة . ان لمصر دور كبير بكل اطيافها السياسية لايمكن استئصال احد من العملية السياسية وعلي السيسي وفلوله
    ان يردوا الامر الي اهله وليرجعوا الي سكناتهم بدل من البحث عن حماية وضمانات
    ولكم مودتي حميعا …………

  8. يقول عيسى بن عمر:

    عذرا . بل عادت مصر لحكم العسكر. وا أسفاه…

  9. يقول تغريد:

    كنا نعشق كل ما تكتب عشقا لا حدود له ، أما الآن فقد أصبحت مقالاتك كأسهم البورصة . وهذا لا يقلل من احترامنا لشخصك الكريم . ليتك تتأمل المواقف أكثر .

  10. يقول التجرد هو الطريق إلى الحقيقة.:

    ليتك تصحو من حلمك الجميل، فترى الكابوس الوافع.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية