عولمة على الطريقة الصينية-السعودية تقودها ثلاثة محركات ومصالح مشتركة

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

السعودية هي البنك المركزي لإمدادات النفط العالمية، وهي قوة قائدة في مجال تطوير إنتاج الطاقة المتجددة، وتمتلك من الفوائض المالية ما يمكنها من أن تشارك بفاعلية في إعادة رسم خريطة الاستثمارات في العالم، كما إنها تتبنى خطة طموحة لتنويع اقتصادها والانتقال إلى مرحلة ما بعد النفط، وإلى عصر الطاقة الجديدة. لكن السعودية إذا أرادت أن تحقق ذلك بأعلى قدر من الكفاءة والفاعلية، فإن عليها أن تسلك طريقا جديدا في تنمية علاقاتها بالقوى الاقتصادية العالمية، وإعادة رسم هذه العلاقات بما يجسد مصالحها الوطنية. وقد بدأ ذلك بالفعل بإسقاط مبدأ «النفط مقابل الدفاع» والبدء في فك علاقة الارتباط غير الصحي بين السعودية والولايات المتحدة.
ويكشف المؤتمر العاشر لرجال الأعمال العرب والصينيين، الذي انعقد في السعودية في الأسبوع الماضي أن الحكومة السعودية اختارت تطوير علاقاتها الاقتصادية مع الصين، على التوازي مع «إعادة هيكلة علاقاتها مع الولايات المتحدة» بقوة دفع من ثلاثة محركات رئيسية تقود هذه العلاقات إلى آفاق بعيدة. المحرك الأول، هو ظهور فرصة تاريخية للربح المتبادل بين الطرفين. ففي الوقت الحاضر تدعو الولايات المتحدة شركاتها ورؤوس أموالها إلى عدم الاستثمار في الصين، والانسحاب من استثمارات قائمة بالفعل. ونظرا لأن الصين هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فإنها توفر بكل تأكيد فرصة كبيرة للنمو أمام رؤوس الأموال الأجنبية، خصوصا فيما يتعلق بملء الفراغ الذي ستتركه وراءها الشركات الأمريكية والعالمية التي تستجيب للضغوط بالخروج من الصين. ومن هنا فإن ضخ المزيد من رؤوس الأموال السعودية في شرايين الاقتصاد الصيني يمنح السعودية فرصة تاريخية لتحقيق أرباح متعاظمة في سوق معروف عنها قدرتها على النمو السريع، كما أنه في الوقت نفسه يعوض الصين عن جزء من الاستثمارات الأمريكية التي تخرج منها. المحرك الثاني، ينطلق من حقيقة أن الصين هي أكبر مشتر للنفط السعودي في العالم، ولذلك فإن من مصلحة الشركات السعودية تطوير مكانتها داخل السوق الصيني المحلي، وأسواق الصين الخارجية في كل أنحاء العالم. ومن المعروف أن الصين هي الشريك التجاري الأول لما يقرب من 150 دولة حول العالم. وفي هذا السياق فإن صندوق الاستثمارات العامة السعودي مع أكبر شركتين سعوديتين، هما «أرامكو» و«سابك» يشاركون في استثمارات ضخمة في الصين، خصوصا في قطاعات تكرير النفط، والبتروكيماويات، والطاقة. وتنعكس قوة هذا المحرك في اتفاقيات الاستثمار التي تم توقيعها خلال المؤتمر بقيمة 10 مليارات دولار، ومن قبلها استثمارات بقيمة 50 مليار دولار في ديسمبر من العام الماضي.
المحرك الثالث، هو أن السعودية تعتبر أن تطوير علاقاتها الاقتصادية مع الصين يندرج في إطار تثبيت ركائز نظام دولي متعدد الأقطاب، «نشأ فعلا، وليس قيد الإنشاء» على حد التعبير الذي أطلقه وزير الاستثمار خالد الفالح في المؤتمر العاشر لرجال الأعمال الصينيين والعرب في الرياض. ومن ثم فإن تطوير العلاقات لا يقع ضمن نظرة ضيقة تقتصر على العلاقات الثنائية بين البلدين، ولا حتى العلاقات العربية الصينية. ونظرا لأن إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد متعدد الأقطاب، ليس مجرد انتقال بسيط من حالة إلى حالة، فإن العملية الجارية فعلا في الوقت الحاضر تتضمن أبعادا مركبة متعددة تشمل النظام المالي، واللوجيستي، وسلاسل الإمدادات الصناعية والتجارية، والغذاء، والطاقة، والتجديد التكنولوجي، وبناء المهارات البشرية على مستوى العالم. وتسعى السعودية لأن تصبح حلقة رئيسية في منظومة سلاسل الإمدادات العالمية، داخل نظام اقتصادي عالمي متعدد الأقطاب. وعلى هذا الأساس فإن محركات ضخ استثمارات سعودية في الصين، وتكثيف علاقات التشابك بين الشركات السعودية والصينية، والتعاون المشترك على أساس معادلة «ربح – مقابل- ربح» ترسم يوما بعد يوم ملامح جديدة للعلاقات الاقتصادية بين السعودية والصين، وبين السعودية والعالم.

مبادرة «الطوق والطريق»

وإذا نظرنا إلى تاريخ مبادرة «الطوق والطريق» أو «الحزام والطريق» منذ إطلاقها عام 2013 فإن ما حققته الصين من رفع مستوى علاقاتها الاستراتيجية مع السعودية منذ القمة بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والملك سلمان بن عبدالعزيز في ديسمبر من العام الماضي وحتى الآن، يعتبر بكل المقاييس أكبر قفزة نوعية على طريق المبادرة. ذلك أن ما تحقق أخيرا تنتشر نتائجه الإيجابية على الجانبين؛ فهو يفتح السوق السعودية للاستثمارات الصينية، كما أنه يفتح السوق الصينية للاستثمارات السعودية، ولا يقتصر على التجارة فقط، وإنما يخلق نطاقا جديدا لعلاقات متعددة الأطراف تتجاوز حدود الدولتين، تضم إلى جانب كل منهما مجموعات أخرى مثل دول مجلس التعاون الخليجي والدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، ودول مجموعة «بريكس» ودول جنوب شرق آسيا. ومن ثم فإن هذه العلاقات تمنح السعودية موقعا متميزا من الصين إلى جنوب شرق آسيا، كما تمنح الصين موقعا متميزا من السعودية إلى أفريقيا وأوروبا. ويعتبر الوزير خالد الفالح أن هذه العلاقات تقوم على أساس مبدأ «ربح – مقابل – ربح» وليست علاقات لصالح طرف على حساب الطرف الثاني. كما أن الفالح رفض، في حوار مع شبكة «سي إن بي سي» الأمريكية، فكرة أن تكون العلاقات مع الصين على حساب علاقات السعودية مع الولايات المتحدة، مؤكدا أن السعودية تستطيع «إقامة توازن» في علاقاتها بين البلدين، نظرا لأن الولايات المتحدة ما تزال حتى الآن هي أكبر مورد للسلاح إلى المملكة، وأكبر مستثمر أجنبي فيها، ولها عدد من القواعد العسكرية هناك.
ومع ذلك فإن قوة نمو العلاقات السعودية-الصينية المشتركة تفوق بكثير قوة نمو علاقاتها مع الولايات المتحدة، على الرغم من القدم التاريخي للعلاقات بين الرياض وواشنطن، والأهمية الحيوية لهذه العلاقات من الناحية الاستراتيجية. ونستطيع تفصيل ذلك بعرض صورة مقارنة للعلاقات التجارية بين السعودية وكل من الصين كما تبدو حاليا، وكما تطورات خلال الفترة من 1995 إلى 2021.

الولايات المتحدة والسعودية

طبقا لبيانات وزارة الخارجية الأمريكية، فإن السعودية هي أكبر مشتر أجنبي للمعدات العسكرية من الشركات الأمريكية بعقود تصل قيمتها إلى 140 مليار دولار. وتسهم الصادرات الأمريكية إلى السعودية بإتاحة 165 ألف فرصة عمل في الشركات الأمريكية. وتعتبر الولايات المتحدة أكبر مستثمر أجنبي في السعودية، وذلك من خلال استثمارات شركات الطاقة والبتروكيماويات. وفي هذا العام أعلنت تلك الشركات استثمارات جديدة بقيمة 3.5 مليار دولار. كما أن الصفقة الضخمة التي عقدتها السعودية مع شركة بوينغ بقيمة 37 مليار دولار تتيح ما يقرب من 140 ألف وظيفة لدى بوينغ نفسها وفي الشركات الموردة لها التي تبلغ عددها 300 مصنع تنتشر في 38 ولاية أمريكية. وتشمل استثمارات الشركات الأمريكية في السعودية قطاعات الطاقة الشمسية، وإنتاج الهيدروجين الأخضر، والطاقة النووية، وتكنولوجيا المعلومات.
وطبقا لبيانات مرصد المبادلات التجارية العالمية OEC فقد بلغت قيمة الصادرات السعودية للولايات المتحدة في عام 2021 حوالي 12.9 مليار دولار منها 10 مليارات صادرات نفط ومشتقاته. وفي المقابل بلغت قيمة الصادرات السلعية الأمريكية للسعودية 11.6 مليار دولار. وكانت أهم الصادرات هي الطائرات وطائرات الهليكوبتر والسيارات والأمصال الطبية. وقد نمت الصادرات السعودية للولايات المتحدة في السنوات الـ 26 الأخيرة (1995 – 2021) بمعدل سنوي يبلغ 1.9 في المئة سنويا تقريبا، حيث ارتفعت من 7.9 مليار دولار في بداية الفترة إلى 12.9 مليار دولار في نهايتها. وفي المقابل فإن الصادرات الأمريكية للسعودية خلال الفترة المذكورة حققت نموا بمعدل 2.5 في المئة سنويا، لترتفع من 6 مليارات دولار الى 11.6 مليار دولار تقريبا.

الصين والسعودية

الصين هي أكبر شريك تجاري للسعودية. وقد بلغت التجارة المتبادلة بين الدولتين في العام الماضي 116 مليار دولار، أي ما يزيد على أربعة أضعاف قيمة التجارة السلعية المتبادلة بين السعودية والولايات المتحدة. كما أن الصين هي أكبر مشتر للنفط السعودي في العالم. وفي نيسان/أبريل الماضي بلغت قيمة الصادرات السلعية الصينية للسعودية حوالي 3.9 مليار دولار، بينما استوردت الصين منها ما قيمته 5.9 مليار دولار بفائض لصالح السعودية قيمته ملياري دولار. وتمثل السيارات وأجهزة الاتصالات أهم صادرات الصين للسعودية، التي تتركز اهم صادرتها في النفط الخام والبتروكيماويات.
وقد سجلت التجارة المتبادلة بين البلدين في الأشهر 12 الأخيرة، من نيسان/أبريل 2022 إلى نيسان/أبريل 2023 تباينا شديدا في النمو، حيث زادت الصادرات الصينية بنسبة 43.7 في المئة، لتصل إلى 9.9 مليار دولار، في حين انخفضت الواردات بنسبة 26.8 في المئة إلى 5.9 مليار دولار مقابل 8.1 مليار.

آفاق النمو المتوقعة

من الواضح أن معدل نمو التجارة الخارجية بين السعودية والصين يتجاوز بمرات ومرات مثيله مع الولايات المتحدة. ومع تزايد اتجاه السعودية لفتح أسواق جديدة لمنتجاتها في الصين والأسواق المجاورة في جنوب شرق آسيا، فإن قيمة المعاملات التجارية مع الولايات المتحدة ستتجه للانخفاض عاما بعد آخر، خصوصا مع فتح سوق السلاح السعودية للمعدات العسكرية الصينية ومنها الطائرات، والطائرات المسيرة، وأنظمة الدفاع الجوي والصواريخ. لكن السعودية ستظل حريصة في كل الأحوال على توازن إمدادات السلاح رغم سياسة تنويع مصادر الإمدادات، وذلك لاعتبارات تقنية واستراتيجية، وكذلك لتجنب غضب الولايات المتحدة التي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن ويمكنها أن تستخدمه ضد السعودية إذا تطلب الأمر.
وعلى الصعيد المالي يتوقع خبراء مؤسسة «جي بي مورغان» أن الصين يمكن أن تحصل على استثمارات من الصندوق السيادي السعودي «صندوق الاستثمارات العامة» والصناديق السيادية الخليجية بقيمة تتراوح بين تريليون إلى تريليوني دولار خلال الفترة حتى عام 2030 بما يعادل 10 إلى 20 في المئة من أموال هذه الصناديق خلال الفترة من الآن وحتى نهاية العقد الحالي. ويقدر الخبراء ثروة هذه الصناديق في الوقت الحالي بحوالي 4 تريليونات دولار، من المتوقع أن تزيد إلى 10 تريليون دولار في عام 2030. وفي المقابل فإن نشاط الشركات الصينية في السعودية ودول الخليج يتجه إلى الزيادة بمعدلات مرتفعة، للوفاء باحتياجات تنويع الاقتصاد والتكيف مع احتياجات مرحلة ما بعد النفط، والانتقال من الاعتماد على الوقود الكربوني إلى الوقود الخالي من الكربون. كما أن الشراكة السعودية-الصينية تشهد أيضا اهتماما متزايدا بالتكنولوجيا المتقدمة وتكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها في مجالات مختلفة من الصناعة إلى الإدارة والرعاية الصحية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية