عيد من اجل الشاعر
إلياس خوريعيد من اجل الشاعرفي الازمات والاعياد، يحضر الشاعر. كان ابو العلاء يسمي جميع شعراء العرب باسمائهم، اما حين يصل الي ابي الطيب المتنبي، فكان يطلق عليه اسم الشاعر، جاعلا من ال التعريف عنوانا لأكبر تجربة شعرية عرفها العرب في تاريخهم. لذا نستحضره، ونجد في كلماته عزاء للروح ونفحة امل باللغة التي صارت ارضنا ونحن ندافع عن الارض. اذا مرضنا نتذكر الحمي، واذا عشقنا نستعيد ليالي بعد الظاعنين شكول . اذا اضنانا الزمن نهجوه بكلماته، واذا واجهنا الخطر نذهب الي طعم الموت في ابياته. واليوم ونحن في الاعياد نتذكر عيده واحوال العيد:كريستينا أغواليرا عيد بأية حال عدت يا عيدبما مضي ام لأمر فيك تجديد .تحدي الزمن ورثاه، ومشي علي موسيقي المعني، واضعا تاج الكلمات علي رأسه.سحر الشاعر من سحر الشعر. كان سيد الكلمات وخادمها، جعل من الحكمة استعارة، ومن الاستعارة موسيقي للروح، واوصل عمود الشعر الي نهاية سلّمه الموسيقي، بحيث اراد ان يكون خاتم الشعراء عندما لم يستطع ان يدخل في معارج النبوة.هل كان الشاعر، وسط الصراعات والكراهية والحسد التي حاصرته، يطمح الي اقفال باب الشعر؟ لكنه لم يقفله، اكتفي بأن صار مفتاحه. لذا عندما قررت العرب الخروج من انحطاطها الطويل لجأت اليه، وصار امام الشعراء في عصر النهضة. صار النموذج والأصل، حققوا ديوانه وقلدوه، استعادوه واعادوا كتابته، وبقي في القمة التي لا يشاركه فيها احد.كأن المتنبي لا يجضر بقوة لا تُرد الا في لحظات الهوان. عندها، حين يسقط في ايدي العرب، يهربون من ضعفهم الي قوة لغته/لغتهم، ويرندحون شعره كأنهم يستعيدون صلتهم بأنفسهم.هذا ما تعلمته من اميل حبيبي واكتشفته عن طريق المصادفة عند الطيب الصالح. روائيان وكنت الي جانبهما، يتباريان في حفظ المتنبي وانشاد شعره. لم افاجأ بمحمود درويش يردد علي قلق كأن الريح تحتي او بأدونيس ينشد شعر المتنبي، فهذا جزء من ذاكرة الشعر العربي التي لا تموت، اما ان يسكر صاحب المتشائل بشعر المتنبي ويحفظ صاحب موسم الهجرة الي الشمال اجزاء كبيرة من ديوان الشاعر، واقف بينهما مرددا: وان رحيلا واحدا حال بينناوفي الموت من بعد الرحيل رحيلُ فهذا ما يثير العجب. ائمة الحداثة العربية يطربون لايقاعات المتنبي الصاخبة، ويتنافسون علي تسمية الاوزان والتغرغر بالقوافي، التي كتبها ابن سقاء الكوفة منذ الف سنة، كأنهم جعلوا من هذا الشعر ملجأهم السري كي يواجهوا به الايام التي جعلت من بلاد العرب في العصر الحديث ارض نكبات تتوالي.واليوم، في بيروت او غزة، في القاهرة او البيضاء، في بغداد او دمشق، لا نجد سواه، كي يعيد الي موسم الاعياد المخضبة بدمنا شيئا من رونق الايقاع، ودلالات المعاني.المعاني التي قال الجاحظ انها مطروحة في الطريق، ضاعت وسط هذا الموت العربي الكثير. لم تعد الناس تخشي الموت، فالموت حق ورحمة، مثلما قال القدماء، بل صارت تخشي اللامعني الذي يحاصر الموت.في الماضي كنا نهزأ من تعريف قدامة بن جعفر للشعر في وصفه كلاما موزونا مقفي يدل علي معني. وكنا علي حق، فالوزن والقافية يحددان النظم لا الشعر. لكننا اغفلنا، من دون قصد ربما، القسم الثاني من التعريف، اي الدلالة علي المعني. نكتشف اليوم ان السذاجة ليست تبريرا، وان انزلاق العالم العربي الي اللامعني كان يتم في الهزائم المتتالية التي تجرعناها، واوصلتنا الي هذا الخواء.في مواجهة اللامعني يجلس الشاعر علي صهوة كلماته، يمضي من طبرية الي حلب، ومن حلب الي مصر، يرثي الزمان، ويتطلع الي ملاحم بطولة لا تأتي، ينظر الي بلاده، فيري العربي غريب الوجه واليد واللسان ، ولا يري ملوكا سوي العجم: انما الناس بالملوك وما تصلح عرب ملوكها عجمُ .ينصرف الي لغته باحثا عن اصداء الحكمة في الايقاع، صانعا المعني بالموسيقي، ملخصا الماضي كله في قصيدة واحدة.في الاعياد، ونحن في التيه العربي، نستعيده ونرتاح الي ايقاع لغته التي تقول لنا ان هناك في الاعماق، شيئاً يكلمنا ويعدنا: ما لما كلنا جوٍ يا رسول انا اهوي وقلبك المتبولُنحن ادري وقد سألنا بنجد اطويلٌ طريقنا ام يطولُ هل الطريق طويل ام انه يطول بنا؟ هل تكتفي غربتنا بنا ام تأخذنا الي حيث اغترب المسيح: يترشفن من فمي رشفات هن فيه احلي من التوحيدِما مقامي بأرض نخلة الا كمقام المسيح بين اليهود .وهل عيدنا اللغوي الذي صنعه شاعر عاش منذ الف عام يستطيع ان يقاوم غربة العرب عن انفسهم التي طالت وصارت اشبه بالموت؟ 0