عين التيهان العربي

حجم الخط
6

سؤال المستقبل العربي مطروح بشكل كبير جدا. وليس المقصود بالمستقبل هنا سوى تجاوز النفق الذي يعيش فيه منذ أمد بعيد، ولم يستطع الفكاك منه، أو الخروج منه إلى فضاء مفتوح على الأحسن والأفضل. يتحدد أي مستقبل منشود، كما يتقدم إلينا من خلال تجارب العالم المعاصر، إما من خلال ماض ممتد في الحاضر، من جهة أولى، أو حاضر تم توفير مؤهلات تمكنه من الانتقال إلى المستقبل، من جهة ثانية.

يمكننا أن نضرب للحالة الأولى مثال ما تعيشه الدول الغربية، فهي وليدة التطور الذي تحقق منذ عصر النهضة بخيباته وآماله، وهي تربط حاضر مستقبلها بما أنجز فيه على المستويات العلمية والتكنولوجية والفكرية. أما الحالة الثانية فنجدها مع الدول الآسيوية (الصين، الهند، كوريا) التي خرجت من التخلف الذي كانت تعاني منه منذ تاريخ قريب، وحققت لها شروطا تجعلها قادرة على الانطلاق نحو المستقبل، فارضة نفسها على العصر الذي تأسس على قاعدة الحضارة الغربية.

أما بالنسبة للعرب فنجدهم بلا حاضر يحمل مؤشرات دالة على الانتقال إلى المستقبل، وبلا ماض يرتهنون إليه لتحقيق انطلاقة تمكنهم من الاتصال بالعصر. منذ ما سمي عصر النهضة وهم تائهون. وفي هذا التيهان يعيشون يومهم الذي هم فيه غير قادرين على التفكير فيما يمكنهم فعله غدا، تاركين للآخر الغربي والشرقي صناعة جغرافيتهم وتاريخهم الذي لا يحمل أي علامة تدل على أن له مستقبلا ما!

لم أجد في الأعاجيب العربية ما يلخص وضع العرب الحقيقي مثل ما تقدمه لنا سيرة الملك سيف بن ذي يزن، رغم أن تاريخهم العريق يعطينا الكثير من الأمثلة الصارخة. تقول السيرة: عملت الساحرة الثريا الزرقاء على اعتقال نصر بن الملك سيف. ولكي تتخلص منه نهائيا، أمرت أحد خدامها من الجان برميه في مكان لا يمكن أن ينجو فيه من الهلاك نهائيا. حمل الجني نصرا، ورماه في واد ليست فيه سوى عين ماء وشجرة رمان. وجد نصر نفسه وحيدا في واد أقفر لا أنيس فيه. شرب من ماء العين، وأكل من شجرة الرمان، واحتمل معه ما يكفيه من الماء والرمان في الطريق. سار اليوم كله، أملا في الخروج من الوادي. وفي الليل الدامس تعشى، وشرب ما بقي معه من ماء، وعزم على مواصلة السير. في الصباح وجد نفسه في المكان عينه، وكأنه لم يبرحه أبدا. لقد شرب من عين التيهان المسحورة التي تقضي بأن من شرب ماءها، وأكل من رمانها لن يغادرها أبدا مهما غير الاتجاهات التي يأمل أن تؤدي به إلى بر الأمان. إنه سيظل يجد نفسه في مكانه.

منذ عصر النهضة، ومنذ خروج الاستعمار، والعرب يبحثون عن مخرج من التخلف والقمع. وفي كل مرة يأتي من يعدهم بأنه سيخرجهم من نفق القمع والتخلف، فإذا به يجعلهم يحنون إلى عهد سابقيه، ولا يجدون فكاكا من الخروج من عين التيهان. لقد سقوا ماء التخلف، وأطعموا رمان القمع. هناك حكاية مغربية سمعتها مرارا وأنا صغير، ومن مصادر متعددة. تقول الحكاية: كان وفد اليهود المغاربة حين يستقبلهم السلطان المغربي قديما، يحملون إليه هدايا متنوعة. ومن بينها تفاحة حمراء جميلة، ورمانة مشققة. وحين تقدم الهدية يقول رئيس الوفد: نسأل الله أن يجعل خدودك دائما موردة مثل هذه التفاحة، ويقوم بعد ذلك بتقسيم الرمانة إلى أقسام، ويفرق أجزاءها، ويقول: ونسأل الله أن يجعل شعبك متفرقا مثل هذه الرمانة، فلا يجتمع له شمل! يمكن تعميم هذه الحكاية على العرب أجمعين، فالدعوى السردية شملت علاقة الحكام بشعوبهم، كما همت علاقتهم ببعضهم البعض.

تفرق العرب، وتشتت شملهم، وليس نصر بن سيف بن ذي يزن سوى واحد بصيغة جمع. وظل نصر يشرب ماء العين كلما أصابه العطش، ويأكل من شجرة رمانها متى جاع، وكلما بذل مجهودا ليخرج من الوادي وجد نفسه لا يبرح مكانه وفي متاهة مغلقة.

من الصعوبة بمكان مقارنة العرب بالغرب أو بالشرق لاستحالتها. لكن، مع ذلك تبدو مقارنته بدول الجوار التي تحيط به ممكنة: الفرس، والترك، والصهاينة. لكل هذه الدول تاريخ مع العرب. لا يمكن أن ينسى الفرس أن العرب المتخلفين خربوا حضارتهم، وأنهم لا يستحقون أن يحلوا محلهم. وحتى الإسلام الذي جعلوه عقيدتهم اختاروا منه ما يتصل بتاريخهم فإذا هو أمشاج من المعتقدات التي تجعلهم في خلاف مع التوجه الديني العام. وحين بنوا جمهوريتهم الإسلامية جعلوا من أهدافها نشر ديانتهم وفرضها على جيرانهم. وكانت الحرب الإيرانية ـ العراقية كارثة لم يجن منها العرب بعد سقوط بغداد سوى دخول الفرس إلى العراق. وكانوا المستفيدين وحدهم من ذلك، وها هم الآن في سوريا واليمن، فضلا عن لبنان، وامتد ذراعهم إلى أقصى بلاد العرب، وإفريقيا، وبتنا نسمع عن حسينيات سرية، وعن المطالبة بالحقوق الدينية.

أما الأتراك فتاريخهم مع العرب لا ينسى. وها هم الآن يتدخلون في سوريا والعراق، ويخططون لما فيه مصلحتهم أولا وأخيرا. ولا داعي للحديث عن الصهيونية فالجغرافية الأسطورية التي تحلم بها لتحققها مستقبلا تتجاوز ما تفرضه حاليا مع المستوطنات في الضفة إلى إسرائيل الكبرى.

جاء الربيع العربي ليدفع نصرا إلى الخروج من عين التيهان. فكان ما كان من رجوعه إليها، وكأنها قدره المحتوم. وفي السودان والجزائر الآن يحاكم سدنة النظام بالفساد الذي كان يقدم على أنه الإسلام أو الثورة التي تعمل على إزاحة العروش، أو تدافع عن تقرير مصير الشعوب. لا يفكر من يمسك بالسلطة العربية إلا بالاستمرار فيها أبد الدهر، وحين يعجزه الدهر يوليها لأحد أقاربه، ويتحدثون عن الجمهورية الشعبية الديمقراطية والثورية؟ دول أخرى ليس لها من هدف سوى إضعاف الأحزاب والمجتمع المدني وتدجين الكل، ومع ذلك نجدها تتحدث عن الانتخابات وصناديق الاقتراع، أما التي لا تعترف بالوساطة السياسية فتخلق المؤسسات التي لا تتعارض معها. أنى لنا الخروج من عين التيهان العربي؟

لا يفكر العرب إلا في اليوم الذي يوجدون فيه، ولكل حادث حديث. ولا يمكن إلا أن تتراكم الأخطاء والتجارب الفاشلة. ولا تستفيد من التفرقة والتشتت سوى دول الجوار، من جهة، والقوى العظمى من جهة أخرى. فأنى لنا الحلم بمستقبل يكون فيه الوئام والمصالحة بين الدولة والحكومة والشعب؟ ويكون لنا موقع بين دول العالم وشعوبه؟

تقول أعجوبة السيرة الشعبية إن نصرا ظل يبذل الجهود من أجل الخروج من عين التيهان. ذات يوم رأى أفعى ضخمة تزحف هاربة، يطاردها ثعبان أضخم منها. أدرك أنه عدوها. أمسك حجرة كبيرة وهوى بها على رأسه، فقتله. تمثلت له الأفعى امرأة في غاية الحسن والجمال. شكرته ووعدته بأن تنقذه مما فيه. ولما علمت بأنه شرب من العين عبرت عن استحالة الخروج من الوادي. ولما استشارت عمتها الجنية في قضيته، فكرت طويلا أنه الموعود بإبطال سحر تلك العين، وساعدته على ذلك.

تأويل رموز الأعجوبة على الطريقة التقليدية يجعلنا نعتبر الساحرة الثريا الزرقاء تمثيلا للذهنية العربية، والعين هي الزمن. ونصر العقل، والعمة العلم. لا مستقبل للعرب بدون العلم والعقل لتغيير الذهنية.

* كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكراً جزلاً أخي سعيد يقطين.
    جميل جداً هذا الشرح, ومع أني لاأستطيع إبداء نقد لأستاذ كبير مثلك, لكني وجدت من وجهة نظر شخصية, أن وضع الفرس والترك، في خانة واحدة مع الصهاينة ليس موفقاً. فالصهيونية تختلف في هذا السياق عن الفرس والترك في كونهما الجارتان الأبديتان في صراع حضاري وتاريخي مع العرب. ظهور الصهيونية وصراعنا الحضاري معها, هو من جهة أمر جديد في شكله وطبيعته, وفهمه مرتبط بالتسلط الإستعماري الغربي على المشرق العربي من جهة أخرى. طبعا مع التأكيد دوما على الفارق بين اليهود أو اليهودية والصهيونية.
    على العموم المهم أو السؤال الأهم, كيف حل علينا هذا الضياع. هل هو في جزء منه, انتقام الغرب من إشعاع الحضارة الإسلامية ووجد الغرب فرصتهم, كما قال الجنرال غورو عن احتلال دمشق هاقد عدنا ياصلاح الدين فأين أنت.
    أم إنه من جهة أخرى, يقع ضمن مايسمى صراع الحضارات أو الثقافات الدائم, والحاضر دوماً خلف تطور المعرفة أو الحضارة الإسانية, بأساليب تختلف من مرحلة تاريخية إلى أخرى.
    أم أنه بالدرجة الأولى يعود (في الوقت الحاضر) إلى افتقار العقل العربي لإيجاد صيغة مناسبة لبناء حاضر مستقر تمكنه من الانتقال إلى المستقبل. وهنا أجد أن خاتمة المقال هي من أخير الكلام.

  2. يقول سلام عادل(المانيا):

    الحقيقة هناك عدة امور يجب ان تؤخذ بالاعتبار عند الكلام عن مستقبل البلدان العربية وهي ان كل بلد له مشاكل تختلف عن غيره وهناك المشكلة الفلسطينية التي يجب ان تحل لكي يرتاح الجميع من مسالة التخوين والتطبيع والبيع والشراء بالقضية والمقدسات وهناك الجامعة العربية التي سيكون الغاءها حل لمشكلة القيادة العربية التي تريد كل دولة ان تكون هي الاخت الكبرى وعلى الجميع طاعتها والا سيكون العقاب وخيما كما حصل للعراق وليبيا وسوريا وهناك العشائرية والطائفية والعسكر والتخلف الاجتماعي والنظرة للمراة وكثير من الامور المعقدة التي تجاوزها العالم لا زالت تعشعش بيننا وحتى العلم والعقل لا يحققان المستقبل المزهر كما يحدث الان في بعض دول الخليج التي فيها مستوى التعليم متفدم لالاضافة للتطور العمراني والصحي ولكن القبلية لا زالت هي المهيمنة على سلوكهم وعاداتهم البدوية

  3. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري سوء فهم وبالتالي تطبيق خاطئ لمفهوم (التوطين/التعريب) للوظيفة والموظف في النظام البيروقراطي هو إجابتي لسؤال عنوان (عين التيهان العربي)، وأهم شيء معرفة لماذا؟!

    يُقال أن هناك واحد أتعب أباه، يطلب يُزوجه ثنتين في ليلة واحدة .. قال يا أبني خذ بنت عمك أولا بعدها يصير خير،

    قبل ليلة الدخلة قال العم لبنت أخيه .. أحذرك، هذا إذا ما تهريه هري هذه الليلة، راح يتزوج عليك ثانية، قالت له عيني عيونك يا عمر،

    المهم ما تركته ينام حتى أصبح مثل الخرقة البالية،

    حطت ذبابة على وجهه وأزعجته، قال يخاطب الذبابة، تولين عني، لو أخلي أبوي يزوجك؟

    ولذلك بخصوص كيفية تطوير الكتاب،

    كأساس لتطوير عملية التدريب/التعليم المهني، في دولة الحداثة لتتناسب مع حاجة الوظيفة والموظف لإدارة وحوكمة الإقتصاد الرقمي/الإليكتروني عام 2019،

    والمنافسة في سوق العولمة بغض النظر فلسفة السوق الأمريكي (أمازون) أو حكمة السوق الصيني (علي بابا)، فقد قابلت وزير التعليم العراقي والأردني والعُماني عام 2011،

    لأن منتجات Adobe كلها مبنية على مفهوم حوكمة ماكينة طباعة،

    بينما منتجات مايكروسوفت كلها مبنية على مفهوم أتمتة الوظيفة،

  4. يقول S.S.Abdullah:

    صفحات الكتاب مثل الصور، ولذلك منتجات Adobe، هي الأفضل،

    مع كل مكائن الطباعة من الجيل الأول، الذي رفضت الدولة العثمانية، وكذلك الامبراطورية الصينية التعامل بها، في حينها،

    ولكن في الجيل الرابع منها، التي تجاوزت (عضلات/الحيوان) إلى (عقل/الحيوان)، ساهم كليهما، بمشروع (الفاتح التركي)، ومشروع (القدوة السنغافوري)، بأسلوب خاص به، لتخفيض وزن الحقيبة المدرسية على الطالب،

    ولكن على أرض الواقع، المهم ليس البرنامج أو النظام، في الأتمتة أو المكننة/الميكنة،

    المهم هو طريقة ابداع من يستخدمه، بعد استيعاب كل الوظائف في أي نظام أو برنامج، لتجاوز النقص فيما بينهما.??

    ومن هنا أهمية وقف بسطة (صالح) لإنتاج المُنتج الحلال (أي بلا غش تجاري) حتى يكون الأكثر ربحاً من أي منتج آخر لو كان به أي ضمان للمستهلك،

    حسب قوانين أي دولة قامت بتدوينها في أي نقابة للمستهلك حول العالم.??
    ??????

    1. يقول ELCID:

      التاريخ لم يخبرنا بوجود أمة عربية واحدة موحدة بل اخبرنا ان هناك حضارة الشرق الأوسط قبل صعود عرب الصحاري إلى الوجود الحضاري الذي ساهم فيه الآشوري ، الكنعاني ، الفارسي إلخ . حقيقة الأمر هي ان حضارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي التي توجب نعتها عوض العربية على الرغم من ان اللغة التي طورها لغويون فرس واخرون من الاثنيات المذكورة سابقا أصبحت متداولة بسبب الدين الذي هو نفسه تطور مع الأمويون وخاصة العباسيون المدعومون من الاثنيات الفارسية. نكذب على أنفسنا وعلى التاريخ عندما ننعت هذه الكتل التاريخية المختلفة بالعربية. الرجوع إلى المادة التاريخية يمكننا من غربلة الحقائق وتقديم بحوث ناتجة عن تحقيقات موثقة من مختلف المصادر، خاصة الأجنبية لان ما كتب في هذا العالم العربي الإسلامي في غالبه تحريف وتزييف للحقائق. أقول هذا واني من أصول شرقاوسطية شمال أفريقية وايبيرية ولست فارسيا ولا تركيا. إنما الكذب على النفس يؤدي إلى المهالك

    2. يقول S.S.Abdullah:

      ELCID، أظن مشكلتك التشكيك في المصادر التي كتبت بالعربية، والثقة بكل مصدر كتب بغير لغة العرب، وهنا سبب تناقضات مداخلتك، على الأقل من وجهة نظري

إشترك في قائمتنا البريدية