الزمان: 1970.
المكان: حي النبعة في ضاحية بيروت الشرقية.
في ذلك الزمان، أسسنا مع مجموعة صغيرة من الصديقات والأصدقاء مركزاً لمحو الأمية في حي النبعة، وهو حي عمالي يقيم فيه مهاجرون من الجنوب جاءوا للعمل في المصانع في المنطقة: مفروشات، شوكولاته، أحذية، خياطة…
في تلك التجربة القصيرة التي شاركت فيها، تعلمت الكثير. وقد جعلني كرم الطلاب/ العمال وحماستهم للدراسة أتجاوز الحَرَج الذي كنت أشعر به بسبب انتمائي إلى الطبقة الوسطى.
في النبعة، اكتشفت قعر بيروت، صحيح أنني كنت أعلّم طلابي القراءة والكتابة، لكنني كنت أتعلم منهم أبجدية الحياة.
في ذلك الزمن كنا نحلم ببناء تحالف بين الطبقة العاملة والطلاب من أجل الوصول إلى أفق ثوري لبناني، اعتبرناه امتداداً للثورة الفلسطينية.
هذه التجربة تستحق أن تروى، فهي تعبّر عن طموحات جيل من الشبان والشابات كانوا على مشارف العشرين، وكان تشي غيفارا والفدائيون وثوار فيتنام مصادر إلهامهم.
في ذلك المركز الصغير والمتواضع، تلقيت درساً لا ينسى في البلاغة وفي معنى الخيال.
كنا نناقش في الصف الذي يضم مجموعة صغيرة من العمال/الطلبة، مسائل تتعلق بكروية الأرض ودورانها حول الشمس. وتحدثنا عن القمر الذي وطئته أقدام رواد الفضاء وعن النجوم، ودرب التبانة ونجمة الصبح.
أحد الطلاب سأل، ما هي النجوم؟
وقبل أن أبلور جواباً علمياً عن المجرّات، وقف شاب اسمه أنيس وقال: «النجوم هي عيون السماء»، وشرح لنا أن السماء تنظر إلينا من خلال عدد لا يحصى من العيون.
أنيس كان في العشرين، طويل ونحيل، يشتغل في معمل للمفروشات، وكان أحد أفضل الطلبة، بحيث صار قادراً بعد ستة أشهر من الدراسة على قراءة الجريدة.
«شو هالحكي يا أنيس»، قلت.
لكن الشاب كان جاداً، ولقي كلامه قبولاً من زميلاته وزملائه.
وبينما كنت أحاول أن أفكر بطريقة علمية تسمح لنا بالخروج من دائرة الخرافات الشعبية، تذكرت قصيدة عبد الوهاب البياتي التي تصف عوالم الطفولة:
«كنّا نقولُ كما نشاءْ/ حتى النجومْ/ كنا نقول بأنها كانتْ عيونْ/ للأرض تنظرُ في فتونْ/ حتى النجومْ/ كانت عيونْ».
الفكرة الأولى التي خطرت في بالي هي أن هذا العامل نصف الأمي، طوّر حساسية شعرية التقت مع رؤية أحد كبار الشعراء العرب. العمال الذين يناضلون من أجل حقوقهم يصيرون كالشعراء. هذه الفكرة دفعتني إلى صرف النظر عن متابعة النقاش، وجعلني طيش الشباب أكتب بالطبشورة على اللوح الأسود أبيات البياتي، وأطلب من الطالبات والطلاب نسخها وحفظها. فكرة أن العامل وصل في خياله إلى مرتبة الشعراء أصابتني بالذهول. لكن سرعان ما اكتشفت أنني كنت مخطئاً. الافتراض بأن أنيس صار شاعراً، لأن البياتي كتب أبياتاً شبهت النجوم بالعيون، كان ساذجاً ومبالغاً فيه.
يومها فهمت أن عليِّ أن أقرأ الأمور بطريقة مختلفة. العامل لم يقلّد الشاعر -المثقف، بل على العكس. البياتي أخذ استعارته من الأدب الشعبي، وكشف لنا أن أحد أهم مصادر الخيال الأدبي هو الكلام.
اليوم لن نجد أحداً يقول إن النجوم عيون، لكننا سوف نستمع في حياتنا اليومية إلى استعارة القمر لوجه الحبيبة بصفته طريقة مواربة لوصف الأشياء من دون اللجوء إلى قاموس الصفات، وغيرها من الاستعارات التي تحتل مساحات كبيرة في كلامنا اليومي.
النجوم/العيون ليست مجرد استعارة شعرية، إنها جزء من بنية تخيلية تقع تحت اللغة، وعلينا أن نحفر في أعماق اللغة كي نصل إلى اكتشاف الخيال كأفق تأويلي للحياة.
هذا الأفق التأويلي نجده أيضاً في حكاية بلقيس في القرآن، حيث قرأنا التباسات العلاقة بين الخيال والحقيقة.
مشت ملكة سبأ على المرايا التي فرشها سليمان الحكيم، وهي تعتقد أنها تخوض في الماء، فرفعت ثوبها مخافة أن تبلل قدميها بماء العلاقة بين الحكمة وسحر المجاز.
بلقيس مشت على مرآة الحكاية.
وأنيس لم يجد سوى استعارة العيون كي يفسر العلاقة بين ضوء النجوم وعتمة الليل.
النجوم أخذتني إلى بلقيس، وبلقيس أعادتني إلى بيروت.
كيف نميّز بين الحقيقة والمجاز، في مدينة مثقلة باحتمالات الموت، صار مجازها حقيقياً بشكل مرعب؟
هل قفز الحاضر ليدخل في الخيال، فصارت حيواتنا مجازاً لحياة لم نعشها، أو عشناها كلحظات متقطعة لا يمكن الركون إليها أو حتى تصديقها. سكان بيروت مشوا كلهم على الزجاج، لكنهم كانوا عكس بلقيس يعرفون أنهم يمشون على زجاج مدينتهم المطحون، ولم يلتبس زجاجهم بالماء. كان ذلك في الرابع من آب 2020. كأن السماء أمطرت زجاجاً مطحوناً، وكان علينا أن نمشي كي نذهب إلى المستشفيات التي اكتظت بالمصابين. لم يسبق لأحد أن مشى كما مشينا، ولم يسبق للسماء أن أمطرت هذه الكمية من الشظايا. وفجأة رأينا ما لا يمكن تصديقه، إذ صار ما اعتقدناه حطام الزجاج سائلاً متخثراً يمتزج فيه اللونان الأحمر والأسود.
لم نكن نمشي على الزجاج، بل على برك من دمائنا. غصنا في الدم ونسينا المجاز والاستعارة. وأصبنا بالخوف على عيوننا، صارت حقيقتنا مجازاً ومجازنا حقيقة، واحتلنا رُهاب الكلام. لقد حطم خيال الجريمة احتمالات التعبير وفقدنا ألسنتنا بسبب عجزنا عن التمييز بين الموت والبلاغة.
في القصيدة التي كتبها البياتي نعثر على جماليات الطفولة التي ستتخذ شكلاً مأساوياً في مطر السياب، أما هنا في بيروت وبقية مدن العرب المستباحة، فنحن في حاجة إلى الهرب من الاستعارة التي صارت كابوساً، والتوغل في النفق الذي حفره أسرى جلبوع، كي نستعيد قدرتنا على رؤية النجوم.
نُجومُ السّماءِ عُيونٌ تَفيض
ضِياءً عَلى اللَّيلِ إِذ أَظلَما
وَحينَ يَجيءُ النَّهارُ تَرى
مِنَ الشّمسِ غارَت عُيونُ السّما
– المفتي عبداللطيف فتح الله –
كي نستعيد قدرتنا على فهم هذا الواقع الذي بتنا فيه غرباء!
المجاز جزء من واقعنا الذي لطالمنا استعرناه حتى اعتدنا الاستعارة فصارت حياتنا مجازا!
شكرًا أخي الياس خوري. نلتقي معًا في نقطتين مهمتين في هذا المقال. الأولى هي أني أعتقد أن بين الناس العامة (او الغير متعلمين) كثيرًا من أصحاب القدرات العالية أو أصحاب موهبة لكن قساوة الحياة لم تسمح لهم أو لم تعطيهم الفرصة ليحققوا قدراتهم، مع أنهم في الحقيقة أعلى مقدرة من الكثير من المتعلمين! الذين يعتبرون أنفسهم أعلى درجة من الأخرين بفضل تعليمهم!. النقطة الثانية هي أني أعتقد أن الواقع أبعد من الخيال والخيال لبس إلا الخطوة الأولى لفهم أو التي تقودنا إلى الواقع. وخير دليل على ذلك هو هذا الراقع المرير أو المأساوي الذي نعيشه. فلا فطاحل الشعراء ولا عباقرة العلماء كان بمقدرهم أن يتخيلوا ماوصل حالنا إليه، هذه المآسي وهذا الكابوس الذي بخيم فوق روؤسنا. لكن عساهم وأملنا بذلك كبير أن يتصورا لنا كيف هو خلاصنا من هذا الكابوس الحضاري الذي يكاد يقضي على وجودنا.
العتبه جزاز .. و السلم نايلو فى نايلو
و العتبه جزاز .. و السلم نايلو فى نايلو
الواد .. يا امه تاعبنى
بقى باليومين .. يسيبنى
و بعاده .. بيدوبنى
و غلبت فيه .. الحلو
باين يا امه .. ساحرنى
و بقاله كتير .. هاجرنى
و لا حتى .. بيفتكرنى
و انا لسه .. قلبى شايله…… موضوعك هذا يا استاذ خوري ذكرني بهذه الاغنيه الشعبيه وأيامنا التي كانت زمااان في مصر ومدن مصر وإيقاف مصر وصحاري مصر، فهمنا معانيها بطريقتنا الخاصه…
تصحيح… وأرياف مصر…. بدلا من وإيقاف مصر…
“كيف نميّز بين الحقيقة والمجاز، في مدينة مثقلة باحتمالات الموت، صار مجازها حقيقياً بشكل مرعب؟”
يالله! أما آن لهذا السيناريو الهتشكوكي ان ينتهي في بيروت؟ لقد تربينا على ان بيروت هي عروس العرب ، منها و من دمشق و القاهرة تعلمنا حب الشعر و الادب و الرقي الفكري و الفني . كان ذلك في الزمن الجميل او الذي لم يكن على الأقل بهذه البشاعة التي سدّت علينا منافذ الامل و النور اليوم .ماذا بقي من شوامخ المدن العربية اليوم ؟ و ماذا بقي في جعبتها من جميل لتعلمه للصغار ؟ ربي يلطف بالامة العربية جميعها.
الكاتبة وهيبة جموعي
https://www.wahiba-djemoui.com/