منذ مطالعة الصفحات الأولى لمروية «غانيات بيروت» للبنانية لينا كريدية، يدرك قارئها أنه دخل فخا قرائيا على غير دراية، بتداعيات هذا الكمين المحكم، بدءا من العنوان العالي للرواية، الذي عرفه جان جينيه بأنه المصيدة الأولى التي يعمد الكاتب على نصبها ليوقع قارئه، وقد اشتغلت الكاتبة على هذا وبعناية، عارف بعيدا عن قصة المصائر التي ستعبر، وربما قسرا من تحت هذا العنوان اللافت.
وسم متن الغلاف بمسمى رواية تحت سقف العنوان العالي غانيات بيروت، ولكنني حين وصلت السطر الأخير والمؤدي إلى كلمة النهاية، وجدتني قد كابدت رحلة قرائية مرهقة للغاية، ومرهقة هنا لم تتأتَ من عيب قرائي أو لغوي، فالسرد كان شائقا، وما من خلاف يطال السلاسة اللغوية أيضا، وبصراحة أعم يصعب على القارئ إيجاد أي ثغرة، وهذا يحسب للنص، ولكنني ألغز هنا من باب التفاوت بين ما هو على الغلاف وما يحتويه الورق، على الورق يلتقي القارئ بمعنونات داخلية، لنقل وبطريقة أخرى، بأن كل جزء له عنوانه الخاص وهذا أيضا لا ينفي أن يطلق الكاتب على منجزه، رواية، ولكن في «غانيات بيروت»، الأمر مختلف جدا، فالعناوين الداخلية لا تمت لبعضها بعضا بصلة، الصلة الوحيدة التي اتكأت عليها الكاتبة، لتجعل من تلك العناوين رواية، وهو ما كانت تمتهنه تلك النسوة محور النص، كبنات ليل أو عاهرات أو غانيات أو مومسات.
لو تناولنا حكاية من زاوية أخرى لوجدنا ان ما يخبئه لنا غلاف «غانيات بيروت» ليس برواية وهو أقرب إلى مجموعة قصص قصيرة، تناول داخلي لسيرة كل امرأة امتهنت هذه الصنعة، بمعزل عن الظروف التي أوقعتها في مستنقع بيروت، ويمكننا القول إن ما تركته لنا لينة هو سيرة ذاتية لحيوات متصلة منفصلة تحت بند الضرورة، فهي متصلة من حيث إن هؤلاء النسوة كن ينتمين إلى كار واحد، ومنفصلة من باب أن كل خيط من تلك القصص يبدأ عند الغانية ذاتها، سواء كانت، هيام، ناديا، أنطوانيت، نوال، ابتسام أو نازك، وينتهي هذا الخيط عندها بعينها، ولا يذهب إلى النهاية لتتشكل لدينا نهاية مروية، بغض النظر عن شكلها، إن كانت نهاية مفتوحة أم كلاسيكية.
بعيدا عما أشرت إليه حول التصنيف، أو قضية تجنيس نص «غانيات بيروت»، فهذا لن ينقص في ميزان حضوره كنص محكم، وبغض النظر ما إذا اندرج تحت مسمى رواية، أو قصص قصيرة أو سيرة، لعلي أخمن بأن كريدية أرادت أن تلفت انتباهنا كقراء لتلك السير واختارت أن تختزل كلا منها بعدد من الصفحات، أو مثل تقديم أولي، وأعزو هذا إلى أن كل سيرة امرأة من تلك النسوة هي رواية بحد ذاتها، لما تكتنزه من إشارات ونقاط مهمة تشير بالبنان نحو التداعيات والحقب التي عاصرتها بيروت، بيروت المدينة الإشكالية والمتقلبة المزاج مثل نسوتها، وهذا ما يجعل المثل النمساوي ينطبق عليها تماما، والذي يشير للمرأة المتقلبة: أنت مثل طقس النمسا. فطقس النمسا لا قرار له، فله في اليوم الواحد أربعة فصول.
استطاعت الكاتبة بتلك السرديات أن تكشف لنا وجها من وجوه بيروت، فالكل يعرف ان لبيروت خباياها كما كل المدن الأخرى، ولكن المختلف هنا، وهو عندما يمر أحدهم من أمام عنوان «غانيات بيروت» سوف يشعر بالاشمئزاز، لكون العنوان فادحا، وفادحا هنا تأتي بوجهين وبالتأكيد هذين الوجهين هم للعملة ذاتها. فادح بمعنى العيب للخصوصية التي تعيشها المجتمعات الشرقية، وفادح بمعنى المدح، لأن لينة كريدية أجبرتني وبكل طواعية مني على التعاطف مع هؤلاء النساء، لم أستطع اتخاذ موقف تجاههن، تقبلتهن بقناعة تامة، كما هن وبكثير من التعاطف، النص المسرود يكتنز أيضا بالكثير عن طقس العائلة البيروتية، وما يجول جوانيتها واعتدادها بحضورها، بمعزل عن النقاط التي تناولتها كريدية في ما يتعلق بقصص الحروب والانتكاسات التي تعاقبت على بيروت.
نادية، هيام، أنطوانيت، نوال، ابتسام ونازك، تشي تلك الأسماء في الوهلة الأولى بأنها ليست سوى عناوين أو فواتح لقصة امرأة امتهنت الدعارة أو اعتاشت من بيع جسدها، وهذا صحيح لأن العنوان الأول يشي بما في المضمون، لكن المغالطة تكمن في أن كل عنوان أو اسم هو بطل حكايته، نادية هي بطلة قصتها، ونازك أيضا وهذا ليس صحيحا من وجهة نظري، على الرغم من دأب الكاتبة كريدية لجعل كل من هؤلاء النسوة بطلة لحكايتها، فكانت تؤثث لحضور هذه الشخصية لتجعلها عالقة في ذهن القارئ، لكنه بالمقاربة هو الحضور المدعي، وأقول إنه ادعاء حضور مدعيّ، كمعاكسة للمثل المعمول به بين العوام، وراء كل رجل عظيم امرأة، فالمثل هنا ينطبق على «غانيات بيروت» تماما، فوراء كل غانية منهن رجل قواد عظيم، وهو ينتمي لمنظومة اجتماعية لها ما لها وعليها ما عليها تحكمها دساتير ونظم خاصة بها وحدها.
*كاتب سوري