تباهى بعنتريته. فبعدما أصيب بالمرض وكاد أن يفارق الحياة لولا العناية الفائقة التي حظي بها بوصفه رئيس أقوى دولة في العالم وأكثرها تقدماً في العلوم الطبّية، وبعدما أخضِع لوهلة للتنفس الاصطناعي وعولج بعقاقير لا تزال في الطور الاختباري، بما يعني أن القلق على حياته بلغ الذروة لدى أطبائه، فعلت العقاقير مفعولها واستعاد حيويته (وإن كان الأطباء غير متأكدين من أنه اجتاز المحنة نهائياً) فاستساغ أن يعرّض مرافقيه للمرض كي يطوف بسيارته المصفّحة ويلوّح بيده للحمقى المعجبين به والمرابطين أمام المستشفى العسكري حيث جرى علاجه.
ثم أجاز له الأطباء أن يعود إلى بيته الأبيض المؤقت الذي يحلم بأن يحوّله إلى مقرّه الدائم على غرار رؤساء مدى الحياة في الأنظمة الديكتاتورية، فعاد إلى هوايته المفضلة التي يمضي نصف وقت عمله المفترض في ممارستها، ألا وهي التغريد (وتغريده أقرب إلى نُعاب الغراب منه إلى غناء العندليب) فكتب متبجّحاً «أشعر بأنني بأفضل حالا! لا تخافوا من الكوفيد. لا تدعوه يسيطر على حياتكم. لقد طوّرنا، في ظل إدارة ترامب [يتكلّم عن نفسه وكأنّه شخص آخر وهي من علامات النرجسية المعروفة]، بعض العقاقير الممتازة والمعرفة.
أشعر بأنني على حال أفضل مما كنت عليه قبل عشرين عاماً!» وكأن سائر الأمريكيين يستطيع الحصول على مثل العناية التي حظي بها في حين أن قسماً عظيماً منهم لا يحوز حتى على ضمان صحّي اعتيادي.
ثم عاد إلى البيت الأبيض حيث ثمة جناح هو بمثابة مستشفى صغير خاص بالرئيس، وخرج على الشرفة ليخلع كمامته رافعاً قبضته وكأنه ملاكم محترف انتصر على خصمه في مباراة حامية، ثم غرّد من جديد مستشهداً بصحافية أسترالية من روّاد الصحافة اليمينية كتبت عنه مقالاً بعنوان «تُظهر معركة فيروس كورونا بسالة الرئيس ترامب» جاء فيه ما غرّد به، وهو «أن الرئيس، لو عاد إلى مزاولة الحملة الانتخابية، سوف يكون بطلاً لا يُقهر [كذا]، وقد تغلّب ليس على كل الحِيَل القذرة التي رماها عليه الديمقراطيون، بل وعلى الفيروس الصيني [كذا] أيضاً. وسوف يُظهر لأمريكا أنه ينبغي ألا نخاف».
كان ترامب طفلاً مدلّلاً جباناً، وهو يدّعي شجاعة الشجعان (لما ينقصه من رأي) بينما تُظهر سيرته أنه استخدم امتياز الثروة التي ورثها عن والده كي يتهرّب من أداء الواجب العسكري الذي أملي على أبناء جيله
هذا في وقت بلغ عدد الإصابات بوباء الكوفيد في الولايات المتحدة حوالي سبعة ملايين ونصف المليون وزاد عدد الوفيات بسببه عن 210 آلاف، أي أعلى عدد إصابات وأعلى عدد وفيات في العالم أجمع بالرغم من أن أمريكا إحدى أغنى دول العالم والدولة الأكثر تقدماً في العلوم الطبّية كما نوّهنا، بما يشكّل إدانة دامغة لمسلك «إدارة ترامب» في مواجهة الجائحة ويشير إلى استهتار الرئيس بصحة مواطنيه، لا بل بحياتهم، وهو يحثّهم على عدم الاكتراث وعدم استخدام الكمامات ويمضي في تصوير كوفيد وكأنه داء بسيط، بل داء يسمح لمن يُصاب به أن يخرج منه على طريقة رجوع الشيخ إلى صباه في القوة. وعند هذا الحدّ يستحيل الذكوري الغبي مجرماً حقيقياً بتشجيعه مواطنيه على تعريض حيواتهم للخطر.
وعلى غرار أمثاله من مواليد الثروة الصِفاق، فإن هذا «البطل الذي لا يُقهر» كان طفلاً مدلّلاً جباناً، وهو يدّعي شجاعة الشجعان (لما ينقصه من رأي) بينما تُظهر سيرته أنه استخدم امتياز الثروة التي ورثها عن والده كي يتهرّب من أداء الواجب العسكري الذي أملي على أبناء جيله. فبعد تأجيل خدمته العسكرية أربع مرّات بسبب الدراسة، استحصل على شهادة طبّية في خريف عام 1968 كي يفلت من التطويع الإلزامي ويُحال إلى الاحتياط، ثم على شهادة طبّية ثانية في عام 1972 أعفته من الخدمة نهائياً بحجة نِقي عظمي في رجله. والطريف في الأمر أنه سئل في عام 2015 عن أي رِجل ظهر فيها النِقي، فلم يستطع الإجابة.
وقد كشف تحقيق أجرته صحيفة «واشنطن بوست» في صيف ذاك العام عن الشبهات الكثيفة التي توحي بأن دونالد ترامب الشاب قد اشترى ذريعته الطبّية من أحد الأطباء المكرة، وهي طريقة معهودة في البلدان التي تفرض خدمة عسكرية إلزامية بينما يستشري الفساد فيها بحيث لا يخدم سوى الفقراء ومتواضعي الحال.
ويلٌ لأمة تحسب الجبان بطلاً، وويلٌ لعالم تسوده مثل هذه الأمة…
كاتب وأكاديمي من لبنان
لإفادة من يبتغي الإفادة:
*** وويلٌ لعالم تسوده مثل هذه الأمة…
*** وويلٌ لعالم تسوده مثيلاتُ هذه الأمة…
(السيادة في السياق تقتضي الجمع لا المفرد!)
مع كل هذا و بعد كل هذا فإنه يعتبر أن الوطنية الأمريكية تتمثل في تأييده ، أما معارضته فإنها عداء لأمريكا.