الآن وقد مرّت الذكرى الـ80 للانتصار السوفييتي في معركة ستالينغراد (1,5 إلى 2 مليون قتيل، وأكثر معارك الحروب دموية على امتداد التاريخ)؛ للمرء أن يقلّب الرأي في نوعية القراءات الواجبة، على سبيل استذكار واقعة لم تكن عادية، ولم تخلّف في التاريخ الإنساني الحديث خدوشاً عابرة أو قابلة للنسيان. العودة إلى كتابات تمزج التاريخ العسكري بالذاكرة البشرية، على سبيل استقراء «النصّ الدفين» لأبناء المدينة، ما دُوّن قليله أو اندثر كثيره، خلال زهاء ستة أشهر من الحصار والقتال والقصف والأهوال؛ اقتداء بمصائر تلك النصوص التي اقترنت بحصار طروادة مثلاً، وقصائد شعرائها التي كُتبت وضاعت وظلّ محمود درويش ممسوساً بفكرة العثور عليها وقراءتها. في خيار آخر، يمكن للمرء أن يعود إلى مشاهدة بعض أفضل نماذج أفلام الحرب السوفييتية، فلاديمير بيتروف مثلاً، أو يوري أوزيروف، أو حتى شريط ألكساندر إيفانوف الذي يتلمّس عواطف عشاق المدينة من نساء ورجال. خيار ثالث، ليس أقلّ إمتاعاً ومؤانسة وتكريماً أيضاً، قد يتمثل في استقراء عشرات، وربما مئات، اللوحات التشكيلية والصور الفوتوغرافية والمنحوتات والتماثيل والجداريات، التي خلّدت المعركة ورصدت مصائر البشر والحجر.
أو، كما اختارت هذه السطور، العودة إلى الكاتب والصحافي والروائي السوفييتي فاسيلي سيمينوفتش غروسمان (1905-1964)، الذي كتب المدوّنات الأفضل عن حصار موسكو وكرسك وبرلين، فضلاً عن تقاريره التي غطّت حصار ستالينغراد وانتصارها؛ ثمّ درّة أعماله، الرواية الضخمة التي حملت عنوان «الحياة والمصير» وامتدّت على ثلاثة أجزاء (بلغت 1550 صفحة في الترجمة العربية التي أنجزها ثائر زين الدين وفريد الشحف، وصدرت سنة 2021 عن دار سؤال في بيروت). ومن الجدير بالإشارة، هنا، أنّ قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي وعلى رأسها نيكيتا خروتشوف ذاته، ومن خلفه المخابرات السوفييتية وأجهزة اتحاد الكتّاب ورهط الدوغما العقائدية والجمود الفكري والأدبي، لم يطربها عمل غروسمان وأخضعته مراراً للرقابة والمنع والتنكيل. ومن مفارقات التاريخ، الساخرة والمريرة في آن، أنّ غروسمان أوكراني المحتد؛ والأرجح أنّ مواطنيه يعيدون قراءته اليوم على أضواء الشموع، تحت الحصار، وكأنّ ستالينغراد التي أبدع في تصويرها قفزت مشاهدها من سنة 1952 إلى سنة 2023!
في العودة إلى الذكرى الـ80 لانتصار ستالينغراد على هتلر وموسوليني والرايخ الثالث والنازية والفاشية، معاً، قد تكون أردأ الخيارات تلك التي تستقرّ على قراءة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يستذكر الواقعة عن طريق قرع طبول الحرب الباردة والنووية
هنا فقرة من ختام الرواية، في ترجمة زين الدين والشحف: «ولكن في برد الغابة، كان يحسّ بالربيع متوتراً، أكثر منه في السهل المضاء بالشمس. كان في صمت هذه الغابة حزن أكبر من صمت الخريف. سُمعت في بكمها الأخرس صرخة نواح على الموتى وفرحة الحياة الغاضبة. لا يزال ثمة برد وظلام، لكن قريباً جداً ستُفتح الأبواب على مصراعيها، وسيعود البيت المهجور إلى الحياة، ويمتلئ بضحك الأطفال وبكائهم، وستُسمع خطوات الإناث اللطيفة المستعجلة، وسيتجول في البيت صاحبه الواثق. وقفا وهما يحملان محافظ الخبز، وصمتا». وفي هذه اللغة، وتلك المناخات الطبيعية والشعورية، كانت أساليب تشيخوف وغوغول وليرمنتوف تتقاطع وتتصارع، في خلاصات أقرب إلى مزيج تصنعه مطحنة، منه إلى عصارة يقذفها أتون. وكان لقب «تولستوي السوفييتي» يعتمل في النفوس، ولكن ندر أنه تردد على الألسن بالنظر إلى البغضاء الصريحة التي أعلنها أندريه جدانوف (مفوّض ستالين في الرقابة على الآداب والفنون) ضدّ غروسمان وأقرانه.
لقد ابتدأ جدانوف من الأشهر، الشاعرة الكبيرة أنا أخماتوفا، فاعتبرها مجرد «فضلات من الثقافة الأرستقراطية القديمة»، وعمل على طردها من اتحاد الكتّاب، ولم يتورّع عن توصيفها بـ» نصف عاهرة، نصف راهبة، أو بالأحرى عاهرة/ راهبة»؛ وكان القصد هو التلويح بالهراوة الغليظة في وجوه الآخرين، إذْ كان الإجهاز على أخماتوفا بمثابة محرقة تنتظر سواها. ولم يكن غريباً أنّ ميخائيل سوسلوف شخصياً، وكان في سنة 1947 رئيس «دائرة التحريض والبروباغندا» في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، راجع بنفسه مخطوط عمل غروسمان المعنون «الكتاب الأسود»، ووجّه بعدم صلاحيته للنشر. لا غرابة، كذلك، في أنّ صداقة حميمة نشأت بين غروسمان ومواطنه الأوكراني الكاتب والصحافي فكتور نكراسوف الذي، في المقابل، كان مرضياً عنه نسبياً ولكنه عجز عن تخليص صديقه من أغلال الرقابة الجدانوفية. وفي أزمنتنا الراهنة، التي شهدت وتشهد أفواج اللاجئين والمهجّرين ويقظة العصبيات والعنصريات، لا يَعجب قارئ غروسمان حين تدور الفقرات الأولى من روايته الضخمة في معسكرات لجوء.
وفي العودة إلى الذكرى الـ80 لانتصار ستالينغراد على هتلر وموسوليني والرايخ الثالث والنازية والفاشية، معاً، قد تكون أردأ الخيارات تلك التي تستقرّ على قراءة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يستذكر الواقعة عن طريق قرع طبول الحرب الباردة أو النووية، والتذكير بأنّ دبابات ليوبارد الألمانية التي ستصل إلى أوكرانيا هي ذاتها التي اجتاحت ستالينغراد. لافت، إلى هذا، أنّ بوتين كان قبل سنتين فقط قد تعمّد إغفال اسم ستالين خلال الاحتفالات بالذكرى ذاتها، وأمّا اليوم فإنه لا يبجّله كقائد حرب فقط، بل كزعيم شارك في بناء الإمبراطورية الروسية، ودبلوماسي فاوض خصومه وحلفائه في طهران ويالطا، وقبلهما في التفاهمات مع النازية. غير خارج عن هذه السياقات أنه هذه المرّة يحشد العواطف القوموية الشعبوية، على مبعدة أمتار من تمثال جديد يردّ ستالين إلى ساحات فولغوغراد؛ التي كانت تسمى ستالينغراد، والأرجح أنها هكذا ستبقى في ملازمة اسمها الوضاء.
لا شك أن هناك فروق بين النازيين الذين اكتسحوا أوروبا وشمال افريقيا وتحالفوا مع فاشية ايطاليا واليابان، وباختصار وغنى عن التعريف بجرائمهم في اوروبا (معسكرات اعتقال الألمان لليهود والسنتي والروما والبلاشفة) وجرائم اليابان في آسيا (الصين وكوريا) وإيطاليا في افريقيا خاصة(ليبيا والحبشة). ومع أن تدخل الروس لصالح انظمة وطوائف وأقليات في الشرق اوسط منكر وبغيض ومندد به، فإن تدخلها في اوكرانيا قد يبدو كتدخل المانيا النازية في بولونيا وتشيكوسلوفاكيا واحتلالها لحماية المان دانتسغ والسوديت، ولكن الحال مختلف الآن فروسيا ليست طامحة بأكثر من صد المتخامة الاستفزازية الغربية لها سياسيا وعسكريا واقتصاديا بدءا بأوكرانيا. جدانوف كان اوكراني الأصل ولكنه مخلص لحزبه وعقيدته وكذلك كان حريصا كما تملي عليه الظروف السائدة على ألا يشوب الدولة الفتية وحضارتها وأدبها وفنها شوائب رأسمالية مثله مثل أوروبا وشعبويبها الآن والتي تعمل على اقصاء واضطهاد الأقليات والآخرين بالجملة وليس بتدقيق نص أو رواية ومحاسبة اظيب ومفكر.
مقارنات ليست في محلها على الأرجح