هل حولت حرب إسرائيل على غزة قضية الشرق الأوسط (القضية الفلسطينية) إلى دائرة اختصاص القانون الدولي ومفاهيم العدالة الدولية، وتجاوزت طبيعة الصراع التقليدي بين الكيان الصهيوني والعرب على الساحة الدولية؟ وبالتالي أُدخلت العديد من إجراءات التقاضي الدولي ونتج عنها تحولات في المفاهيم القانونية والشرعية الدولية في ظل النظام الدولي القائم، بدوله المهيمنة على قراره ومؤسساته الدولية؟
فمنذ أن تفجرت الحرب في السابع من أكتوبر الماضي، بين الكيان الصهيوني وحركة حماس، صدم العالم من طبيعة الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على غزة، مستهدفة مقاتلي حركة حماس والوجود البشري الفلسطيني في غزة، ضمن مساحة محدودة ذات كثافة سكانية هي الأعلى عالميا، حاشدة قواها العسكرية بما يفوق كل قوتها التي استخدمتها في حروبها مع العرب منذ 1948، ونتج عن هذا التوغل البربري في غزة دمار متعمد، مستهدفاً الأرض والبشر، بتصميم على إلغاء الوجود الفلسطيني في غزة، فقد قتلت إسرائيل في حملة إبادة جماعية ما يفوق الثلاثين ألفاً من الغزاويين مستخدمة أقذر وسائل الحرب من الحصار والتجويع.
كثيرة هي المعاهدات والوثائق التي حاولت وضع حدٍ للجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية خاصة خلال الحروب إلا أن مطابقة هذه المبادئ للواقع شكّل دائماً ثغرة أخلاقية في مصداقيتها
ولكن السؤال كيف فسرت إسرائيل بما سمته ومعها حلفاؤها الغربيون، حقها في الرد والدفاع عن أمنها، بما أدى إلى قيامها برد فعل يفوق الحدث المعني؟ إسرائيل التي لم تكن يوما تأبه للشرائع والمقررات الأممية، منذ أن استُزرع كيانها في المنطقة، مخالفة كل مقررات الشرعية الدولية في الكلاسيكيات القانونية والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، بعد الحرب العالمية الثانية، من تصفية الاستعمار واحتلال أراضي الغير، والتدخل في شؤون الدول الأخرى، وغيرها من نطاقات قانونية تخترقها إسرائيل باستمرار. إن القوة والإرهاب والهاجس الأمني، لازم إسرائيل وجعل من دولتها الافتراضية كياناً سياسياً لا يتوافق مع طبيعة الدولة في حدودها وعلاقاتها مع جيرانها، فهي دولة بلا جغرافيا وبلا تاريخ يرتبط بأرضٍ بعينها، يمنحها ما يخول للدولة الطبيعية الحق في استخدام القوة المشروعة في حدود مستوى العدوان. ودائماً ما كانت «دولة» فوق مبادئ القانون الدولي بمسمياته المختلفة، من قانون دولي عام وقانون دولي إنساني، بما في ذلك معاهدات أسرى الحروب، اعتماداً على حصانة متوهمة، أو حقيقية، وغطاء سياسي وعسكري تتعهده الولايات المتحدة الدولة الأقوى وحليفها الأوروبي، وبهذا كانت القوة العسكرية الضاربة يرافقها إحساس بالتفوق على جيرانها، تعبر عن وجودها المزعوم كقوة اعتداء مطلقة لا تحدها قوة قانون ملزمة. وقد شكلت حرب الإبادة التي تنفذها إسرائيل في غزة منحى جديداً في طبيعة القانون الدولي ومدى استجابته الإنسانية في العدالة والإنصاف وحدود تطبيقه وإجراءاته ودائرة اختصاصه، فقد جاءت أولى الاعتراضات على ما تقوم به إسرائيل من خارج الدائرة المعنية بالقضية الفلسطينية عربياً وإسلاميا. وكانت حيثيات الاعتراض بعيداً عن شعارات المدونة السياسية العربية، في محكمة العدل الدولية فقد قامت دولة جنوب افريقيا برفع شكواها إلى محكمة العدل الدولية متهمة إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في يناير الماضي كسابقة قانونية. هذا الخطوة التي كشفت مدى فظاعة ما ترتكبه إسرائيل من جرائم إبادة بحق الفلسطينيين في غزة، وإن يكن التحرك القانوني لا يتوافق عادة مع التوقعات السياسية في إيقاف الإبادة.
وما ينتظر من التداول القانوني لأزمة غزة على منصة المحاكم الدولية لا يعول عليه، قياساً إلى التدابير السياسية العاجلة التي تناشد دول العالم خارج منظومة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، استجابة لدواع إنسانية ملحة. ومجلس الأمن الدولي هو منبر آخر شهد جدلاً على مستوى المقترحات الفورية لوقف إطلاق النار، وكيف أن حق النقض «الفيتو» المستخدم حصراً من خمس دول في المجلس، عرقل لعدة مرات مرور مشروعات القرارات المطالبة بوقف العدوان، خاصة من طرف الولايات المتحدة التي امتنعت أخيرا عن التصويت، بينما ظل الموقف الصيني والروسي على خلافه الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، دون فاعلية تذكر في موقفها من حرب غزة. فدول مجلس الأمن الدولي ذات العضوية الدائمة لا تتكافأ، من حيث القوة الاقتصادية أو التنمية البشرية، وهما قوتان يتحدد بهما موقع الدول في سياق النظام العالمي وموازين قوته بمعايير السياسة وليس الثقافات المتنوعة في بعدها الإنساني والأخلاقي! فالأمم المتحدة التي يذكّر ميثاقها في ديباجته بويلات الحرب، وما يهدد الأمن والسلم الدوليين وحول كيفية اتخاذ التدابير اللازمة، وفلسطين موقعها ضمن دول أعضاء المنظمة بين دولة ناقصة التمثيل السيادي، لا يحرمها بطبيعة المنطق القانوني المنبثق عن الميثاق الحق في الدفاع والعيش بسلام. وتكون إسرائيل مهدداً دائماً للسلم ما يستجوب ـ قانونا- تطبيق المادة 51 من الفصل السابع من الميثاق الذي يمهد للتدخل الدولي، ولكن الأمم المتحدة التي يجب أن تتعامل معها بكفاءة، كما يرى خبراء كمؤسسة تعنى بالتعامل مع التهديدات الأمنية الخطيرة تعاني من مشكلة بنيوية. تنص المادة 51 على أن استخدام القوة لا بد أن يتم من خلال مجلس الأمن، إلا أن مجلس الأمن الذي تعكس عضويته التحالف المنتصر في الحرب العالمية الثانية، صمم ليصبح مؤسسة ضعيفة. فحق الفيتو المستخدم من جانب الأعضاء الدائمين يضمن لهم أن المجلس لن يعمل بشكل يتعارض ومصالحهم الوطنية. التحالف الذي تم في زمن الحرب تداعى مبكرا في بدايات الحرب الباردة، ولم يكن مجلس الأمن قادراً على الموافقة على الاستجابة لمهددات الأمن الخطيرة التي تستدعي استخدام القوة (الاستثناء الوحيد كوريا 1950، عندما أخطأ الاتحاد السوفييتي بذهابه خارج مجلس الأمن، ما سمح للأعضاء الأربعة بالتصويت بالتدخل).
بنهاية الحرب الباردة، اتحد مجلس الأمن في تفويض الأمم المتحـدة باتخاذ عمل ضد العراق بعد غزوه للكويت 1990، لقد فشل في متابعة تعزيز قراراته، وهذا مهد الأرضية للولايات المتحدة لقيادة التدخل في مارس 2003. بما حركته حرب غزة في ظل وضع دولي يشهد نزاعاً على خلفية الهيمنة الصاعدة من بين قوى دولية، لم تكن ضمن معادلة توازن القوة في سياق النظام الدولي بنسختيه الثنائية القطبية، أو الأحادية التي سادت عقب انهيار المنظومة الشرقية؛ وضع العالم أمام تحد سياسي وقانوني، بين أن يطبق قانون جرائم الحرب التي تشمل محاكمة منفذي الإبادة في غزة، وترجيح كفة التوازنات السياسية، وتظل بالتالي تفعيل المواثيق الخاصة بانتهاك حقوق الإنسان، بانتظار البحث عن آليات بديلة، فحرب غزة غير المتكافئة عسكرياً بين حماس وإسرائيل على المستوى العسكري، وإن كانت حربها، من سياق مجرى الأحداث، تستهدف استئصال شعب بأكمله، وليس استئصال مقاتلي حماس كما تزعم مبررة حربها الوحشية. قد وازنت بعد سبعة أشهر بين مدى تقدم قواتها على الأرض بخسائرها الفادحة، وموقف حماس بما يتعلق بالأسرى كورقة من أوراق الحرب والتفاوض. إن المحنة التي تواجهها إسرائيل في حربها في غزة متعددة الوجوه، بين حكومة يمينية متطرفة بقيادة حزب الليكود بقيادة نتنياهو، لم ترض حتى أقرب حلفائها عن سياساتها في حرب غزة، وحرج دولي بالغ لم يحرك ساكناً أمام حرب إبادة ترتكب في القرن الحادي والعشرين، وتردد دولي في اتخاذ ما يلزم قانوناً لردع إسرائيل.
ستشكل الحرب على غزة نقطة فارقة في علاقة الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، والعالم ومنظومة تشريعاته القانونية الدولية والمؤسسات التي تمثلها روح هذه القوانين. فأيا تكن النتيجة التي ستسفر عنها حرب غزة، فإن الموقف الدولي والقانوني في تعامله مع القضية الفلسطينية من منظور إنساني تتنازعه حالة التعارض بين القانون والسياسة، وستضع مبدأ قانونيا دولياً جديداً. فدور المحاكم الدولية من جنائية وعدلية لا حدود لولايتها على الجرائم الي ترتكب ضد الإنسانية كمحكمة العدل الدولية التي تفصل في النزاعات بين الدول على أساس القانون الدولي، أو محكمة الجنايات الدولية. ولأنها تعمل وفق اختصاص بما يشبه الاختصاص القانوني الدوليUniversal Jurisdiction العابر للحدود والسيادة والأسس القضائية المحلية للدول، وهو دور مشكوك في فعاليته في غياب آلية تنفيذية مجمع عليها. كثيرة هي المعاهدات والوثائق التي حاولت منذ نهاية الحرب العالمية وضع حدٍ للجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية، خاصة خلال الحروب من وضع مبادئ قانونية ملزمة لكل الدول إلا أن مطابقة هذه المبادئ للواقع شكّل دائماً ثغرة أخلاقية في مصداقيتها.
كاتب سوداني