إذا كان الزمن سيظل يجري بعد هذا، فلا مجرى له إلا نحو فلسطين حرة، نحو عالم يستحيل فيه أن يتساءل طفل ما إذا كانت رجلاه ستنبتان مرة ثانية، نحو عالم يستحيل فيه أن تُمضي طفلة اثني عشر يوماً تنام وتصحو على جثث أهلها، ثم تموت وحدها.
ما معنى أن يكون تراثنا الشعري العربي حَيّاً، إذا لم تتأهب كل أصواته لتتكلّم بلسان غزة في هذه اللحظة المهولة. وإذا كان امتحان الشعر الحقيقي أنْ لا يفنى على الدهر، كما يقول بشار بن برد، أي أنْ يظل حاضراً مهما مرّ عليه الزمان، وأن يكون قادراً على التعبير عن واقع اللغة وأهلها في لحظته الحاضرة دوماً، خارج التاريخ ومساراته الجائرة، فلا بدّ إذن أن نسمع غزة في كل قصيدة عربية. غزة، جرح الزمان الذي لن يلتئم، ستصير لغةً وقراءةً ومساءلةً ونقضاً لكل ما كناه قبل هذا ووجهة لكل ما يمكن أن نكونه بعد هذا.
ها هي غزة تقرؤنا وتترجمنا، تُحيي شعرَنا وتستدعيه إليها بإلحاح. فهي التي تقول بلسان السموأل:
تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا شباب تسامى للعلى وكهول
هي التي تُفجع كالشنفرى بهول خذلان ذوي القربى المشين:
أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم َفإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لأمْيَلُ
فَقَد حمّت الحاجاتُ واللَيلُ مُقمِرٌ وَشُدَّت لِطِيّاتٍ مَطايا وَأَرُحلُ
…
وَلي دونَكُم أهلون سيدٌ عملّس وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
هُمُ الأهل لا مُستَودَعُ السِرَّ ذائِعٌ َلدَيهِم وَلا الجاني بِما جَرَّ يُخذَلُ
وغزة التي تقف مع كل من وقفوا مذهولين من غدر الزمن، الوحيدين، المخذولين، المنطفئين، فتقول بلسان عمرو بن معد يكرب:
كم من أخٍ ليَ صالحٍ بَوّأتُهُ بيدَيَّ لَحدا
ما إِن جَزِعتُ ولا هَلِعتُ ولا يَرُدُّ بُكايَ زَندا
ذَهَبَ الذين أُحِبُّهم وبقيتُ مثلَ السيفِ فَردا
وغزة التي، وحيدةً، تملأ الزمان وتنجو، إن نجت، وفي نفسها أمر، فتقول بلسان المتنبي:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر
وأشجع مني كل يوم سلامتي وما ثبتتْ إلا وفي نفسها أمر
تمرّست بالآفات حتى تركتها تقول أمات الموت أم ذعر الذعر
وأقدمت إقدام الأتيّ كأنّ لي سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر
ما نفع لغتنا العربية إذا لم تكرس نفسها في هذه اللحظة لتحيط، مهما استحال الأمر، بهول الفاجعة في غزة؟ وحتى في اللغات الأخرى، كيف يكون كلام لا غزة فيه؟
منذ أيام وأنا أعود إلى بول سيلان، وهو الشاعر الذي نجا من التوحش البشري نجاةً ناقصةً، تركتْ في نفسه شكا في الشعر والكلام كله، لكنه عاد واجترح من الصمت الذي يعقب المجزرة لغةً لمن لم ينجُ إلا قليلاً، ولمن لا يجد أبلغ من الصمت.
فأقرأ كل قصيدة بما تيسر من ألمانيتي الضعيفة وبعدها في ترجمات إنكليزية متعددة ولا أسمع إلا غزة. ثم أترجم إلى العربية وكذلك لا أسمع إلا دويَّ غزة. وأترجم لا لأني بحاجة إلى ترجمة عربية لسيلان في هذه اللحظة، بل لأن ما أحتاجه هو أن تترجم غزة سيلان لي، أن تترجم لي غزة العالم كله.
إظلام
قريبون نحن، أيها الرّب،
قريبون وبين يديك.
منهكون نحن، أيها الرّب،
مهشّمون ومتشبّثون،
وكأن كلَّ جسد منا
جسدك، أيها الرّب.
صلّ أيها الرّب،
صلّ لنا،
فنحن قريبون.
سَعينا كريح ضالة
سرنا وعكفنا
على كل حزن وواد.
سرنا نحو الماء لنُسقى،
أيها الرب
فكان دمٌ،
وكان دمَكَ المسفوكَ، أيها الرب
وكان يشعّ
فتلمع صورتك في أعيننا، أيها الرب
فارغة مفتوحة أعيننا وقلوبنا، أيها الرب
شربنا، أيها الرب،
شربنا الدمَ والصورةَ في الدم
انحنِ وصلِّ لنا، أيها الرب
فنحن قريبون
مزمور
لا أحد سيعجنُنا من تراب وطين، بعد هذا
لا أحد سيرثي رمادنا
لا أحد
مبارك أنت، أيها الـلا أحد.
علّنا نزهر يوماً في ناظريك،
علنا نزهر في كيدك.
لا شيء
كنا وما زلنا
وسنظل نزهر أبداً
هذا الـلا شيء، نحن،
وزهرة اللا أحد.
متاعنا مشرق كالروح
وسَداتنا خراب كالسماء
والبتلة مشتعلة حمراء
وها نحن نرتل
أرجوانَ الكلام
على حد شوكة.
أما القصيدة الثالثة فبعنوان «عُدَّ اللوز» ويحضر فيها اللوز، ذاك الصديق الفلسطيني الذي يستحضر في الذهن محمود درويش وحسين البرغوثي. وفي القصيدة مرارة كمرارة اللوز ومرارة الخذلان معاً، لذا سمحت لنفسي ببعض التجاوزات، وفي ذهني تتردد عبارة درويش المشهورة: (يا وحدنا) ولازمته في «مديح الظل العالي»: (كم كنت وحدك). تتردد العبارتان في ذهني بصوت درويش، وأقرب منه وأكثر وقعاً بصوت هبة أبو ندى، الشاعرة الغزية التي استشهدت في غارة إسرائيلية في العشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. تتعمد هبة استحضار درويش في قصيدتها، فتسائله وتتحداه حين تقول:
يا وحدنا!
ربح الجميع حروبهم
وتُركت أنت أمام وحلك عاريا
لا شعر يا درويش سوف يعيد ما خسر الوحيد
وما فقد.
أقارب قصيدة سيلان الثالثة ومعي غزة، فأسمح لنفسي أن أقحم في الترجمة هذه العبارة الفلسطينية بامتياز، العبارة التي قالها درويش عقب أهوال صبرا وشاتيلا وردّدتها بعده هبة أبو ندى من قلب غزة المحاصرة، الصامدة وحدها. «كم كنت وحدك.» أسمح لنفسي أن أتعكّز عليها، وهي عبارة يمسك من خلالها كلٌّ من درويش وأبو ندى بخيط يربطهما بوقفة السموأل والشنفرى وعمرو بن معد يكرب والمتنبي، تربطهما بإرث عربي أصيل من الوحدة الهائلة في مواجهة حادثات الدهر وكيده.
عُدَّ اللوزَ
وعُدَّ كلَّ مُرّ أبقاك يقظاً طوال الليل
وعُدّني معك
بحثتُ عن عينك حين فتحتَها،
لم يكن ينظر إليك أحد
«وكنت وحدك».
غزلتُ الخيط السري
ذاك الذي سالت عليه قطرات الندى في بالك
ثم انزلقت في الجرار،
تلك التي تحرسها كلمات
لا تجد طريقها إلى قلب أحد
«وكنت وحدك».
هناك فقط استطعْتَ أن تتقمص اسمك كاملاً
وخطوتَ واثقاً لتدخلَ نفسك.
تأرجحت المطارق حرّةً،
كأجراس تحتضن صمتك،
كم كنت وحدك»
ما يُنصَتُ إليه وصل إليك
شي ما ميتٌ وَضع ذراعه حولك
وثلاثةً مشيتم في المساء.
فاحسبني حاقداً مرّاً
وعُدَّني بين اللوز.
لتكن غزة لحظة التاريخ الحاضرة دوماً، بدايته ونهايته في آن. هي التي ستقرأ العالم وتترجمه لنا بعد هذا، ستترجمنا وتترجم صخب تاريخ والتراث البشري كله. وإذا كنا سنتكلم ونلوك اللغة المنهكة بعد هذا، فلتكن غزة كلمتَنا الوحيدةَ.
كاتبة لبنانية