قال أحد أبرز منظري العولمة جوزيف ستيجليتز: «لقد قللت العولمة من الشّعور بالعزلة لدى شعوب العالم النامي، حيث وفّرت العولمة للشعوب قدرة الوصول إلى المعرفة التي تفوق ما كان يحصل عليه أثرياء، أو نخب أي بلد قبل قرن من الزمان». قد يبدو قول ستيجليتز أصدق من أي وقت مضى، ونعني أثر العولمة- على الرغم من سمعتها السيئة – على الأمم أو الشعوب، ذلك أن الوعي الثقافي يعدّ أحد أهم مكتسبات الانفتاح الذي كرسته مقولات العولمة التي في أبسط تعريفاتها تعني حرية التجارة، والتي تتطلب بالضرورة، تعديلاً في تقبل الأفكار والمعرفة التي تنتقل مع البضائع، وتؤدي إلى تعديل في السلوك، كما القيم.
وإذا كانت الدول النامية إحدى الضحايا نتيجة التخفف من السيطرة على المؤسسات التي تعرضت للتخصيص، فإن هذا قد حمل معه أيضاً وظائف إيجابية؛ بمعنى أن يمارس الفرد في المناطق النامية دوره في أن يتعامل مع منتجات الشركات العابرة للقارات؛ ولهذا فإن سلوك المقاطعة نتيجة الحرب في غزة، قد يبدو نمطاً استهلاكياً لا يمكن لأحد أن يمارس وصاية عليه، فهو يأتي في سياق الحرية التي تقبلنا وجودها ضمن اتجاهات أو سياسات الدول التي رضخت للمناخ الجديد، ولاسيما تعليمات صندوق النقد أو البنك الدولي، وغيرها من المؤسسات التي تسعى إلى التدخل في سياسات الدول، ولكنها لا تستطيع أن تمارس وصاية على وعي المستهلك تبعاً لسياسة الحرية عينها.
قد تبدو المقاطعة جزءاً من الحرب الدائرة في غزة، وإن كانت لا ترقى إلى شيء يمكن أن نعدّه جزءاً من محاولة المساندة الحقيقية، ولاسيما في أوطان عربية تعاني من ضعف على مستوى الوعي، علاوة على وجود القمع، والتضييق. ومع أنّ الحراك الشعبي العربي كان قائماً في مستهل الأحداث، إلا أنه بدأ يضعف في الأسابيع الأخيرة على عكس حراك الدول الغربية، التي تبدو شعوبها أكثر نضجاً في محاولة تعديل مواقف حكومتها. ولعل هذا ناتج عن ثقافة صناديق الاقتراع التي تؤرق قادة الأحزاب، عكس الدول العربية التي يستشعر مواطنوها عجزاً كاملاً نتيجة غياب الديمقراطية الحقيقية، كما قلة الوعي والانشغال بتحقيق لقمة العيش، أو الانغماس بنموذج استهلاكي، أو الانجرار وراء البحث عن الترفيه. وعلى الرغم من كل هذه المعوّقات عن تحقيق الوعي، إلا أن سلاح المقاطعة قد بدا مقلقاً للشركات الكبرى التي تشير التقارير الاقتصادية إلى تراجع قيمتها في الأسواق العالمية، علاوة على انحسار مبيعاتها، بل إن بعض فروعها اقتربت من الإغلاق في بعض الدول، وبناء عليه، فإن استمرار المقاطعة بالنسق عينه، لا بد أنّ يجعل هذه الشركات تدرك أهمية الفصل بين السياسي والاقتصادي، فالمال يبدو النقطة الأضعف للمؤسسات التي تحرص كل الحرص على هذه القيمة، وبذلك يمكن ملاحظة أن بعض الشركات أخذت تنأى بنفسها عن شبهة دعم دولة الكيان الصهيوني.
قد تحتمل النماذج التاريخية للصراع في منطقة الشّرق الأوسط هذا الوعي الجديد، الذي يجعل الأفراد أو الشعوب قادرة على ممارسة موقف، كأن تبحث عن خيارات بديلة لمحاولة التغيير والتعبير عن رأيها، عبر وسائل كرستها ثقافة العولمة عينها، وهنا نستدعي آراء الفيلسوف والاقتصادي الهندي أمارتيا سن، الذي أشار إلى الجانب الإنساني للعولمة، فهو أكثر ميلاً إلى الرأي القائل بأن العولمة عند إدارتها بشكل صحيح، فإنها تكون قادرة على تعزيز الحرية البشرية، بالإضافة إلى تقليل المعاناة؛ بمعنى ينبغي أن نفيد من فوائدها، وتقليل سلبياتها الحتمية. فالحرية الاقتصادية قوام هذه العملية، حيث لا يمكن إجبار شخص ما على التعاطي مع مطعم وجبات سريعة، ما أو مشروب ما، أو ماركة ملابس.
إن مشاهد المقاهي والمطاعم الفارغة لا يشكل سوى مظهر من مظاهر العولمة – على الرغم من محدودية تأثيرها المباشر- ولكنها مع ذلك قادرة على جعل رأس المال الجبان يفكر ملياً قبل أن يمارس تهوراً في السخرية من مشاهد القتل والدمار في غزة، لأن هذا سيكلفه كثيراً.
ويمكن أن نرى في هذا نسقاً تعجز الحكومات التي تسعى إلى تقليص بيان أو مدى الأثر الشعبي المساند لغزة، وحرب الإبادة التي تجري هناك، ولعل هذا يقودنا إلى أن ثمة سياسات لدى بعض الدول التي تسعى إلى تحويل الوعي بالقضية الفلسطينية عبر نبذ مركزيتها، ومحاولة تكريس مقولات شعبوية، كما التمترس حول مقولات الوطنية الضيقة، أو النأي بالنفس، أو لأسباب أيديولوجية تاريخية، وغير ذلك من الشعارات، وهذا يستدعي خلق مناخ آخر من مناخات العولمة التي تنهض على تفعيل قيم المتعة، والترفيه، غير أن المفارقة تكمن حين نرى وعي الشباب، وتحديداً الطلاب، في الغرب، حيث نلحظ تأثيراً، خاصة الولايات المتحدة، من حيث نقد سياسات الحكومة الأمريكية، ومساندتها للكيان الصهيوني، ويمكن قراءة الاستجوابات التي وجهت إلى بعض رؤساء الجامعات بخصوص المظاهرات التي قام بها الطلاب، بوصفها تأتي جزءاً من معنى الوعي الثقافي الناتج عن العولمة التي تعني الحرية، ولا شيء سوى الحرية.
ولكن تكمن المشكلة في العالم العربي حين تُخلق تلك المفاهيم، حسب طريقة التعاطي المحكومة بحرية حسب التفصيل، فحين تسمح السلطات بأن تكتسح الأوطان المتاجر العالمية، علاوة على خصخصة المؤسسات الوطنية، والقضاء على الصناعة المحلية، ولكن ذلك أيضاً يعني عدم القدرة على محاصرة وعي الشباب أو المواطن العادي أو البسيط الذي يملك حرية قراره بالمقاطعة؛ من منطلق أن هذا فضاء معولم، وتوفر المنتجات تتيح لك أن تتخلى عن أي سلعة. وهكذا أمست العولمة، والفضاءات المتاحة جزءاً من أدوات تقويض القوى الغربية المهيمنة ثقافياً، وهذا يكاد يقترب من فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي (السلاح) الذي بات منفلت العقال، ويمكن محاصرة الحقيقة من خلاله، بل قوّض مفهوم السردية الواحدة، وظهرت مروية جديدة نتجت بفعل وعي الشباب أو صغار السن، الذين تملكهم منظور آخر مختلف، ومع ذلك، فإن وعي الثقافة يبقى جزءاً من مهمات بعض المؤسسات الحكومية ، ولاسيما المؤسسات التعليمية، والمناخات التي تخلقها في تشكيل وعي الشباب، على الرغم من ضعفها نظراً لغياب مناخات الحرية والتعبير لدى بعض الدول.
إن قدرة أساتذة جامعة هارفرد على كسر توصية مجلس الاستجواب من قبل الكونغرس، حال دون تحقيق الإقالة، وهذا يشي بأن مفهوم المزاج الواحد والمؤطر لم يعد قائماً بداعي مفهوم العولمة، حيث لا يمكن لأي أستاذ جامعي أو مثقف أن يتجاهل الوقائع، ويتحدث عن الأخلاق والقيم متجاهلاً الإبادة في غزة… لقد هتكت العولمة وقيم ما بعد الحداثة مركزية احتكار الحدث، والحقيقة، إذ لم يعد أحد قادراً على ممارسة التضليل، فوعي الإنسان لم يعد قابلاً للاختزال في نظم تعليمية أو إعلامية رسمية، فقدت مواقعها مقابل ظهور وسائل تشكيل وعي متعددة ومفتوحة، ويمكن أن تدرك الحقيقة بسهولة تامة ضمن مناخ العولمة.
إن مشاهد المقاهي والمطاعم الفارغة لا يشكل سوى مظهر من مظاهر العولمة – على الرغم من محدودية تأثيرها المباشر- ولكنها مع ذلك قادرة على جعل رأس المال الجبان يفكر ملياً قبل أن يمارس تهوراً في السخرية من مشاهد القتل والدمار في غزة، لأن هذا سيكلفه كثيراً.
وختاماً، لا شك في أن الحراك العربي على المستوى الثقافي أقل من المأمول، فما زالت ردود الفعل آنية، وعاطفية، وتقترب مما يطلق عليها فلسطينياً مبدأ (الفزعة) التي سرعان ما تنفض بسرعة نظراً لغياب الوعي العميق على المستوى الثقافي، فمن المعيب جداً أن نرى أن الحراك في الغرب على مستوى المظاهرات والاحتجاج أشد قوة، وتأثيراً، بل إنه أحدث تغييرا على سياسات بعض الحكومات التي روّجت للعولمة التي أمست سلاحاً يمكن أن يمارس مفعولاً مضاداً.
كاتب أردني فلسطيني