ثمة كثير من المقدمات التي يتجاهلها، عمدا أو جهلا، الكثير ممن يناقش القضية الفلسطينية. لا يتعلق الأمر بالموقف الغربي الرسمي المنافق والمزدوج، أو غالبية الإعلام الغربي الذي يضع مِهنيتَه في الدُرج مؤقتا، بل يشمل الأمر الكثير من «المثقفين» العرب المفترضين أنفسهم!
من هذه المقدمات أن ثمة احتلالا استيطانيا يمتد على مدى 56 عاما كاملة لأراض فلسطينية عام 1967، وأن هناك قرارا دوليا، وهو القرار رقم 242 الذي صوتت عليه الدول بالإجماع، بما فيها الولايات المتحدة نفسها، كانت مقدمته الجوهرية هي «التأكيد على عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بواسطة الحرب» وعلى تطبيق مبدأ «سحب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الحالي» وعن ضرورة «الوصول إلى تسوية سليمة ومقبولة، وفقا لأحكام ومبادئ هذا القرار».
إن الخلاف المصطنع حول الاختلاف بين النصين الإنكليزي (الأراضي بالألف واللام) والفرنسي (أراض بدون الألف واللام) إنما يغفل مبدأ عدم جواز الاحتلال عبر الحرب من الأصل، لكن إسرائيل، انفردت بتقديم تأويلها الخاص بأن القرار لا يلزمها بالعودة إلى حدود العام 1967 فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية حصرا، وقد دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية في هذه السفسطة، وكان اعترافها الأخير بسيادة إسرائيل على القدس الشرقية تأكيدا على ذلك!
ومن هذه المقدمات أن حق المقاومة حق أصيل غير قابل للتحويل، وغير قابل للتجزيء، ومتساو وغير تمييزي، وبالتالي لا يمكن تأويله تبعا للتحيزات، وتبعا لوجهات النظر الشخصية! ففي إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1960 نجد ما يلي «إن إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله يشكل إنكارا لحقوق الإنسان الأساسية، ويناقض ميثاق الأمم المتحدة، ويعيق قضية السلم والتعاون العالميين» ومن ثم، فإن الاحتلال نفسه هو فعل عدواني يتضمن إنكارا لحقوق الفلسطينيين الأساسية.
كما أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3103 الصادر في 12 كانون الأول/ ديسمبر 1973 المتعلق بالمبادئ الأساسية المتعلقة بالمركز القانوني للمقاتلين الذين يكافحون السيطرة الاستعمارية والأجنبية والنظم العنصرية أكد على «إن استمرار الاستعمار بجميع أشكاله ومظاهره… يعد جريمة». وقرر في مادته الأولى على «أن كفاح الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية والنظم العنصرية في سبيل إقرار حقها في تقرير المصير والاستقلال هو كفاح مشروع يتفق مع مبادئ القانون الدولي». وأن «المنازعات المسلحة التي لها دخل بكفاح الشعوب ضد السيطرة الاستعمارية والأجنبية والنظم العنصرية تعتبر منازعات مسلحة دولية بالمعنى الوارد في اتفاقية جنيف لعام 1949، كما أن المركز القانوني المستهدف سريانه على المقاتلين في اتفاقية جنيف لعام 1949 وفي سائر الوثائق الدولية يعتبر ساريا على الأشخاص الضالعين بكفاح مسلح ضد السيطرة الاستعمارية والأجنبية والنظم العنصرية».
إن توصيف الإرهابي والمخرب كان يطلقه كل المستعمرين والمحتلين على من يقاومهم
ويقرر البروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقية جنيف 1977 أنه ينطبق على «المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير كما كرسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادئ القانون الدولي».
إن تعريف «القوات المسلحة» ينطبق على «كافة القوات المسلحة والمجموعات والوحدات النظامية التي تكون تحت قيادة مسؤولة عن سلوك مرؤوسيها قبل ذلك الطرف، حتى لو كان ذلك الطرف ممثلا بحكومة أو بسلطة لا يعترف الخصم بها».
ويحدد البروتوكول القواعد التي على «المقاتلين» الالتزام بها، ومن بينها أنه من أجل حماية المدنيين من الأعمال العدائية عليهم «أن يميّزوا أنفسهم عن السكان المدنيين أثناء اشتباكهم في هجوم أو في عملية عسكرية تجهز للهجوم» وأنه في حال وجود منازعات مسلحة «لا يملك فيها المقاتل المسلح أن يميّز نفسه على النحو المرغوب، فإنه يبقى عندئذ محتفظاً بوضعه كمقاتل شريطة أن يحمل سلاحه علناً في مثل هذه المواقف: (أ) أثناء أي اشتباك عسكري. (ب) طوال ذلك الوقت الذي يبقى خلاله مرئياً للخصم على مدى البصر أثناء انشغاله بتوزيع القوات في مواقعها استعداداً للقتال قبيل شن هجوم عليه أن يشارك فيه».
ومن هذه المقدمات أن منظمة حماس ليست مكونة من كائنات فضائية نزلت على غزة، بل هي منظمة شرعية معترف بها، سبق لها أن شاركت في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني التي جرت عام 2006 وفازت فيها بـ 74 مقعدا من مجموع 132 مقعدا، أي ما نسبته 56٪ من المقاعد، لتشكل بعدها حماس الحكومة الفلسطينية الجديدة ثم حدث الانقلاب عليها، كما نعلم جميعا، وأنه منذ حل الرئيس الفلسطيني لهذا المجلس التشريعي المعطل عمليا عام 2018، لم تجر أية انتخابات للمجلس التشريعي لحد اللحظة!
ومن هذه المقدمات أيضا، إن توصيف الإرهابي والمخرب كان يطلقه كل المستعمرين والمحتلين على من يقاومهم. وأن أي أخطاء، أو حتى خطايا ترتكب في سياق هذه المقاومة، لا بد من إدانتها، لكن لا يجب القدح، بناءً على هذه الأخطاء، في حق المقاومة نفسه، أو في حق المقاومين. وأن اعتراضاتك الأيديولوجية على أيديولوجيا المقاومين أنفسهم، لا يعطي الحق لأي كان بأن يشيطن فكرة المقاومة أو ينفي عن القائمين بها صفة المقاومة!
في شهر تموز/ يوليو في العام 1944 قامت القوات الألمانية المحتلة لفرنسا حينها، بمجزرة في قرية Oradour- sur-Glane، قتل فيها 642 شخصا، بينهم 207 أطفال. وأصر هتلر على أن مثل هذه «الاجراءات الصارمة كانت ضرورية لردع «الإرهابيين المحتملين»! وقد نشرت البي بي سي في يوم 27 آب/ أغسطس 2023 أنه عُثر على «أدلة على إعدام جماعي للسجناء الألمان الذين أجبروا على حفر قبورهم بأنفسهم ثم أطلقت عليهم «المقاومة» الفرنسية النار»! ونقلت عن رئيس مكتب شؤون المحاربين القدامى في المقاطعة قوله: «الجثث موجودة بالتأكيد في مكان ما، لن نتوقف الآن»! وكان أحد «المقاومين الفرنسيين» كما نشرت اللوموند بتاريخ 24 أب/ أغسطس 2023، كشف مقاتل من المقاومة الفرنسية أن مجموعته قد أعدمت مجموعة من 47 ألمانيا كانوا قد أسروهم، وأن هذه المجموعة «كانت تضم 46 ألمانيا بالإضافة إلى امرأة فرنسية يشتبه في تعاونها». وأشارت الصحيفة إلى انتشال 11 جثة لجنود ألمان أعدمتهم المقاومة في الستينات! (قبل أن يسارع أحدهم بالتحجج بأن هذا حدث قبل توقيع اتفاقية جنيف لعام 1949 أعرفه أولا بأن اتفاقية جنيف بشأن أسرى الحرب، اعتمدت عام 1929، وثانيا بأنه بصدد شرعنة إعدام النازيين عموما، وإعدام ستالين لآلاف الضباط البولنديين الأسرى ضمنا!).
لن يصف أحد المقاومين الفرنسيين بأنهم «إرهابيون» بالتأكيد، ولكن الكثيرين يصفون المقاومة الفلسطينية بالإرهاب! لأن الامر لا يتعلق بالحق والعدل، بل بالتحيزات والعهر الأخلاقي!
كاتب عراقي