في قطاع غزة تداوي الناس جروحها بوسائل بدائية، وتعيش في ظروف قاسية بلا غذاء ولا ماء ولا دواء ولا وقود ولا كهرباء، تحولت فيها العربة التي يجرها حمار أو حصان إلى وسيلة للتنقل، وإلى عربة إسعاف، ووسيلة لاصطحاب الشهداء إلى مأواهم الأخير، بعد أن عزت السيارات وعز الوقود. وعادت الدراجات الهوائية إلى الجري في الشوارع لإشاعة روح الحياة التي تتحدى تهديدات الموت، وأنشأت الناس محطات لشحن أجهزة الموبايل باستخدام بطاريات السيارات وألواح الطاقة الشمسية، للمحافظة على وسيلة للتواصل، وبعد إغلاق المخابز، أعادت الشوارع إنتاج أفران خبز التنور التي تعمل بحرق الخشب. هكذا تصنع غزة اقتصاد صمودها، وترد على محاولات قتل الحياة وتهديد الموت؛ ففي سبيل الحياة تتقاسم الناس كسرة الخبز، وشربة الماء، ووميض الطاقة، ويتحمل الجرحى دون مخدر مشرط الطبيب الجراح بلا صراخ. غزة التي أعادتها الصهيونية الدينية المتطرفة إلى عصر ما قبل الصناعة ما تزال تحمل إرادتها بين جنبيها وتصنع صمودها بإباء وعِزة.
ومع أن هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها غزة للتدمير، فإنها ليست ككل مرة، لأن القوات الصهيونية البربرية المتوحشة تعمل تحت مظلة الحماية التي يوفرها الأسطول السادس الأمريكي، وأكبر قوة عسكرية مقاتلة حشدتها الولايات المتحدة لتوفير غطاء للقوات الصهيونية للتحرك بحرية في غزة وحصارها برا وبحر وجوا ومنع المساعدات عنها من أي مكان في العالم، بما في ذلك الدول التي تجاورها وتشاركها الحدود والقريبة منها. ومع أن أصوات التضامن مع غزة ارتفعت في العالم كله، وعبر عنها الضمير العالمي في أحسن صورة حتى الآن، بما في ذلك مظاهرات الاحتجاج على العدوان، والمطالبة بوقف إطلاق النار، وإنهاء الحصار، وإرسال المساعدات الإنسانية، فإن القوات الصهيونية ظلت هي المسيطرة على بوابات الحدود، وهي التي تقرر ما الذي يدخل، ومتى يدخل، وكيف يتم توزيعه. وما تزال حكومة الحرب الإسرائيلية حتى وقت كتابة هذه السطور ترفض إدخال عربات الوقود، ولا تتيح الماء والكهرباء إلا لساعات قليلة (4 ساعات في اليوم على الأكثر) في مناطق مختارة محدودة خلال النهار، لتعيش غزة في ظلام كل ليلة، لا يضيء سماءها غير نيران القذائف والقنابل والصواريخ.
وبعد أن دخلت حرب الإبادة القومية التي تشنها إسرائيل على الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية المحتلة شهرها الثاني، فقد أثبتت إرادة المقاومة الفلسطينية أن اقتحام غزة ليس نزهة لجيش حكومة الصهيونية الدينية الإسرائيلية، وأن المدينة الصامدة قادرها على مواصلة الحياة، حتى لو كان ذلك عند الحدود الدنيا، رغم أنها تنزف كل يوم المزيد من أرواح الشهداء، ودماء الجرحى، وخراب العمران. غزة يمكن أن تتحمل النزيف وتبذل الغالي والرخيص لكنها لا تنزف كرامتها ولا شرفها، لأن رأسمالها الأبقى هو الكرامة والشرف، على العكس من هؤلاء الذين ضاعت كرامتهم، وفقدوا ما يمكن أن نسميه الشرف. نعم غزة لا يعنيها أن تنزف أرواحا ودما وعمرانا، طالما أنها لا تنزف شرفها، بل إنها تضع هذا الشرف تاجا على رأس كل فرد من أهلها، الشهداء والجرحى والأحياء من الرجال والأطفال والنساء، وسوف تعيد إنتاج الشهداء، وتعيد إنتاج العمران، وتعيد التعريف بقيمة الكرامة والشرف لمن فقدوا الكرامة والشرف.
حصر وتوثيق الخسائر
الفلسطينيون الذين أرهبتهم العصابات الصهيونية وقتلت أهاليهم، ومثلت بهم وأجبرتهم على مغادرة أراضيهم ومساكنهم في غزة هذه المرة، يجب أن يكون لديهم اليقين الكافي بالعودة إليها، وليس كما حدث عام 1948 عندما لم يستطيعوا العودة إليها حتى الآن. ومع أن وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» ووكالات الأمم المتحدة الأخرى ومنظمات الإغاثة الإنسانية الدولية التي تعمل في غزة تتحمل مسؤولية كبيرة في توثيق الخسائر والعقوبات الجماعية، التي يتعرض لها الفلسطينيون، فإنه من الضروري أن تكون هناك هيئة فلسطينية مستقلة تتولى مسؤولية التنسيق لأعمال حصر وتوثيق الخسائر البشرية والمالية. صحيح أن المستشفيات تقوم بإحصاء أعداد الشهداء والجرحى، لكن هناك آلاف الشهداء الذين لم يتمكن أحد من حصر أعدادهم وتسجيل أسمائهم، من بينهم أسر كاملة ممتدة، وهو ما يحتاج إلى مجهود منظم ودقيق، حتى لا تضيع ذكراهم تحت ركام التخريب الذي أحدثته آلة الحرب الهمجية البربرية الإسرائيلية. ومن الضروري أيضا حصر الأملاك والخسائر المادية والاقتصادية، وتسجيلها، وإعلانها في قوائم على رؤوس الأشهاد في العالم كله، حتى لا يفلت المجرم بجريمته، وحتى يتم القصاص منه، وإلزام إسرائيل بدفع تعويضات للفلسطينيين عن الحرب الهمجية، وحتى يظل ضمير العالم مستيقظا لا ينام عن الحق.
صناعة الصمود بواسطة المبادرات التلقائية الجماعية والفردية لا تدعو أحدا للانضمام إليها، ولا تنتظر أحدا للقيام بمسؤولياتها، فقد تحولت صناعة الصمود إلى أسلوب حياة يومية للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. ومع ذلك فإن صناعة الصمود تواجه الآن مسؤوليتين رئيسيتين، الأولى هي مسؤولية إدارة الحياة اليومية تحت الحصار والقصف، وهي مسؤولية تحتاج للكثير من التنظيم والتنسيق على مستويات مؤسسية. المهمة الثانية هي تحديد أولويات إعادة البناء والإعمار بعد الحرب، فهذه يجب أن تكون أولويات فلسطينية، لا أولويات يفرضها آخرون.
وإذا كانت السلطة الوطنية الفلسطينية تريد أن يكون لها مكان في غزة، فإن عليها أن تحاول من الآن أن يكون لها دور، وأن تكون لها قيمة، سواء في غزة أو الضفة أو القدس الشرقية. ولا شك في أن الخسائر البشرية الفادحة التي تتعرض لها غزة، واستمرار الحملة العسكرية البربرية الإسرائيلية ضدها بهدف تسويتها تماما بالأرض، تتطلب أن تكون هناك جهة فلسطينية منظمة، تقف إلى جوار المبادرات الأهلية والجهود الفردية التلقائية، من أجل تنظيم عملية حصر وتسجيل وتوثيق الخسائر، والعمل على تنظيم الجهود الطوعية من أجل خلق ظروف معيشية أفضل تحت القصف والتدمير. وليس من المقبول أبدا أن تتصور السلطة الفلسطينية في رام الله أن دخولها إلى غزة هو الجائزة التي تحصل عليها بينما حماس تقاتل فوق الأرض وتحت الأرض. على السلطة الفلسطينية أن تثبت أن لديها القدرات الكافية للمحافظة على أمن الفلسطينيين، وليس التنسيق الأمني مع إسرائيل. وأن لديها القدرات الكافية على تحسين سبل إدارة الشؤون المعيشية لغزة وهي تحت الحصار، وليس المشاركة في حصارها. وأنها تستطيع أن تتخلى عن عدائها لبعض أقسام الشعب الفلسطيني، في غزة والضفة والقدس الشرقية، وليس الانضمام إلى طابور الانتقام من هذا الشعب المقاوم.
وإذا لم تفعل السلطة «الوطنية» الفلسطينية ذلك بينما غزة تقاوم، وإذا انتظرت حتى تتلقى دعوة بالتدخل من إسرائيل والولايات المتحدة، إذا كانت هناك دعوة، فإن الفلسطينيين سينظرون إلى السلطة على أنها جزء من طابور الأعداء الذين يرفعون راية الانتقام ضد الشعب الفلسطيني بأكمله. هناك حاجة إلى أجهزة منظمة تتولى مسؤوليات إعادة تشغيل منظومات التعليم، والصحة، والنقل، والطاقة، والمرافق الأساسية، والمعابر، وإعادة البناء وغيرها من المسؤوليات الحياتية جنبا إلى جنب مع المبادرات الأهلية الجماعية والفردية التي تظهر تلقائيا ساعة بعد ساعة في غزة. ولا يجب ترك مسؤوليات حصر وتسجيل وتوثيق الخسائر البشرية والاقتصادية والعمرانية، وتنظيم إدارة شؤون الحياة اليومية تحت القصف والنار والتوغل العسكري الإسرائيلي، للصدفة أو للمبادرات التلقائية فقط. ولن تستطيع حماس التي تقاتل أن تقوم أيضا بمسؤولية إدارة شؤون الحياة اليومية أثناء القتال. ويجب أن نعلم أن التنظيم وتوزيع المسؤوليات وتقسيم العمل، وعدم السماح بظهور فراغ في مؤسسات الإدارة، هي ضرورات تتعاظم أثناء الأزمات وليس العكس ولا يجب الاستهانة بها.
غزة يجب أن تعود أفضل مما كانت
إن غزة التي تصنع مقومات صمودها، هي قادرة أيضا على صناعة مقومات إعادة البناء بإرادتها الحرة. غزة التي كانت، يجب أن تعود أفضل مما كانت. يجب أن تكون غزة الجديدة أكثر بهاء، وأجمل مما كانت، لأن أهلها الصامدين يستحقون الأفضل، بما يعادل تضحياتهم وصمودهم. وتشمل أولويات إعادة البناء في غزة بعد أن تضع الحرب أوزارها قطاعات الطاقة، والمياه، والمدارس والمستشفيات، والبنية الأساسية، والمساكن، والمنشآت الاقتصادية. لكنها قبل ذلك، ومع استمرار الحرب تحتاج إلى تنظيم جهودها البشرية بطريقة أفضل، وتعظيم الاستفادة من مواردها الداخلية المتاحة، ومطالبة الأصدقاء الذين بإمكانهم تقديم المساعدة أن تشمل مساعداتهم توفير إمدادات الطاقة الشمسية، وتدريب مجموعات من الشباب على إقامة وتشغيل وصيانة وحدات صغيرة، متحركة أو ثابتة لتوليد الطاقة الشمسية، وتوظيفها لخدمة أغراض اقتصادية متنوعة. غزة في حاجة إلى إعادة تنظيم العمل الزراعي تحت نيران القصف الإسرائيلي، وفي حاجة إلى إنشاء أعداد كبيرة من مخابز التنور في كل شارع، والعمل على توزيع المساعدات الإنسانية الأساسية بشكل أفضل في إطار جماعي. إنشاء وإعادة تنظيم مثل هذه الأنشطة من شأنه أن يؤدي إلى زيادة صلابة صناعة الصمود في غزة.
إن اقتصاد الحرب في غزة، وهي تحت القصف الإسرائيلي الجوي والصاروخي والمدفعي، والتوغل بالمدرعات، وممارسة القوات الصهيونية البربرية لسياسة العقاب الجماعي للفلسطينيين، إنما يحتاج فقط إلى تنظيم توفير الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك محاولة جعل المساكن المدمرة قابلة للسكن، حتى ولو بصورة جزئية، فإن ذلك سيكون أفضل لعشرات الآلاف من البقاء في العراء أو في خيام لا تقي من البرد والمطر، خصوصا وأننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من فصل الشتاء. لن أتحدث هنا عن معدلات النمو التي كانت في غزة قبل حرب الإبادة، ولا عن متوسط الدخل الفردي، ولا عن البطالة، ولا عن سوء التغذية والفقر، وإنما يجب أن أشير إلى أهمية تنظيم التضامن بين الأهالي في ظروف هي الأشد صعوبة في تاريخ غزة، ولا أظن أنها شهدت في تاريخها، في أي عصر ما تشهده وتتعرض له الآن من عقاب جماعي، وانتهاكات وحشية للقانون الدولي وقوانين الحرب، ومسؤوليات الدولة المحتلة أمام العالم؛ فإسرائيل في حرب الإبادة الحالية ضد الفلسطينيين قد تفوقت على النازيين بما فعلوه في العصر الحديث، كما تفوقت على المغول والتتار بما فعلوه في عصور الظلام. غزة تستطيع صناعة اقتصاد الصمود، الاقتصاد الذي يجعل المقاومة أسلوب حياة. وسوف ينهض هذا الاقتصاد طالما كانت هناك إرادة حرة مستقلة. ويعلم الاقتصاديون أن الانطلاق إلى النجاح وصناعة المستقبل الأفضل يأتي من قلب الكارثة، وأن ما أطلق عليه جوزيف شومبيتر «التدمير الخلاق» الذي يبرز من بين أطلال الكوارث، سوف تصنعه غزة باقتدار، فإن صناعة الصمود برهان مبكر على صناعة النجاح.