لندن-“القدس العربي”: في تقرير ألقى الضوء على نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، نشر موقع مجلة “بوليتيكو” مقالا للصحافي جويل دريفوس قارن فيه بين الموجة الثلجية التي ضربت فرنسا بداية نيسان/ أبريل وجلبت الثلوج والرياح القاتلة والبرود غير المتوقع الذي رافق حملة إعادة انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون، لكن ليس بسبب الطقس. وفجأة بدت حتمية ولايته الثانية غير مؤكدة، حيث أشارت استطلاعات الرأي إلى أن الفارق في السباق الرئاسي آخذ في التقلص، حيث قامت المرشحة اليمينية مارين لوبان بسد الفجوة مع توجه عشرات المرشحين إلى الجولة الأولى من التصويت في 10 نيسان/ أبريل.
وتقول المجلة إن ماكرون هو أول رئيس دولة في أوروبا الغربية يطلب دعم الناخبين له منذ توغل دبابات فلاديمير بوتين في أوكرانيا قبل 6 أسابيع.
وبالتأكيد فقد قادت الحرب إلى قلب الحملة الرئاسية رأسا على عقب، بدا وكأن الغزو أدى لتعطيل الاستفتاء المثير للجدل حول قضية الهوية الوطنية الفرنسية، وهيمن عوضا عن ذلك النقاش حول عدوان بوتين وكيفية التعامل مع التداعيات في أوكرانيا وعبر أوروبا.
ثم تحول الغزو الروسي إلى عقبة قادت لتصارع خصوم ماكرون من اليمين وإثبات قوتهم في النسخة الفرنسية من الحرب الثقافية.
وحاول المرشح المتغطرس إيريك زمور بناء جدار إبعاد المهاجرين، فيما وعدت فاليري بيكريس، مديرة منطقة باريس، بطرد أي أجنبي لم يعمل منذ عام. وشملت موضوعات النقاش الساخن في الأوساط الفكرية “الصحوة/اليقظة” والعنصرية المنهجية وحتى نظرية العرق.
وقال الكاتب إن البلاد لا تزال تكافح للتصالح مع ماضيها الاستعماري. ومنذ أن منحت المستعمرات السابقة الاستقلال في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كان هناك التدفق المستمر للمهاجرين من شمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى. فقد لبوا الحاجة إلى العمالة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن مع تراجع الصناعة في فرنسا في العقدين الماضيين، ارتفعت معدلات البطالة التي تغطي على 7.4% اليوم وأعلى بكثير في الأحياء المهمشة أو الضواحي الكئيبة بأبراجها السكنية الشاهقة في فرنسا التي يعيش فيها أعداد كبيرة بها من المهاجرين.
وإزاء تظلمات المهاجرين والفقراء، رفضت النخب السياسية والفكرية في فرنسا من اليسار واليمين مزاعم تعرضهم لوحشية الشرطة والتحيز العنصري والعنصرية المنهجية. وجادلوا بأن التمييز ليس مشكلة في ظل الجمهورية الفرنسية التي لا تميز بناء على اللون، والتي لا تعترف بالعرق وتحظر جمع الإحصاءات التي تدخل العرق فيها. وبدلا من ذلك يلومون الولايات المتحدة على تصديرها أفكارا لا تناسب فرنسا وثقافتها.
وعندما جاءت الأزمة في أوكرانيا فقد أوقفت كل الجدل، ولم تحل أيا من هذه القضايا، بل وأبعدتها عن ساحة الانتخابات وخلطت الأوراق بالنسبة للمرشحين.
وفي بداية الجولات الانتخابية هيمن ماكرون واحتل مكانة مرموقة، حيث صور نفسه على أنه رجل دولة وليس سياسيا قبل الغزو.
وقاد دبلوماسية مكوكية نشطة تنقل فيها بين كييف وموسكو وجنيف باعتباره الرئيس الدوري لمجلس الاتحاد الأوروبي. إلا أن جهوده لتفادي الحرب فشلت، ومع ذلك لم يتخل عن دبلوماسيته التي استمرت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
وأرجأ إعلانا رسميا عن ترشيحه إلى اليوم السابق للموعد النهائي، محذرا من أن الترشح لمنصب الرئاسة يجب أن يتراجع في “اللحظات الصعبة” المقبلة. وقال: “يجب على المرشح أن يقدم خطته إلى البلاد، لكن على الرئيس مواصلة عمله”. وبدا أن الناخبين يدعمون استراتيجيته المتعالية عن الدخول في خصومات والشجار.
ففي استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة “إيفوب” الفرنسية للاقتراع في أوائل آذار/ مارس، أشار أكثر من 30% من الناخبين المحتملين إلى أنهم سيعطون ماكرون أصواتهم في الجولة الأولى. في الجولة الثانية الافتراضية ضد العديد من المنافسين المحتملين، توقعت الاستطلاعات فوزا سهلا.
ويبدو أن استراتيجية ماكرون لتجنب التفاصيل الجوهرية للسياسة الداخلية قد اصطدمت بالحائط.
وتظهر أرقام الاستطلاع التي نشرتها المجلة الأسبوعية الفرنسية “جورنال دو ديمانش” الأحد أن تقدم ماكرون على لوبان تقلص إلى 5 نقاط فقط في كل من الجولة الأولى والجولة الثانية المتوقعة في 24 نيسان/ أبريل. وهذا الهامش الضئيل ليس مطمئنا بهامش خطأ 2.3% و 25% من الناخبين الذين لم يقرروا بعد.
مثل الرئيس الأمريكي السابق، بنى زمور حملته أيضا على خطاب خبيث مناهض للمهاجرين.وأدانته المحاكم الفرنسية 3 مرات بالتحريض على الكراهية.
وقال الكاتب إن ورقة “الجوكر” في هذا المجال المزدحم هي زمور، كاتب عمود في الصحف وشخصية إعلامية أكسبته مكانته كشخص من خارج المؤسسة السياسية وموهبته في التصريحات الفاضحة مقارنة مع دونالد ترامب.
فمثل الرئيس الأمريكي السابق، بنى زمور حملته أيضا على خطاب خبيث مناهض للمهاجرين. وأدانته المحاكم الفرنسية 3 مرات بالتحريض على الكراهية. وهو من دعاة نظرية “الاستبدال العظيم”، وهي مؤامرة يمينية متطرفة تدعي أن هناك خطة لاستبدال السكان البيض الأصليين في أوروبا بمهاجرين سود وملونين.
وكان المسلمون الهدف الرئيسي لزمور. وواحدة من الإدانات القضائية له جاءت لدعوته المسلمين الاختيار بين الإسلام وفرنسا. وهو يدعو إلى إنشاء وزارة للهجرة ودفع أموال للمهاجرين لمغادرة فرنسا، وترحيل أولئك الذين لم يعملوا لمدة 6 أشهر ومنع استخدام الأسماء الأولى الأجنبية أو الإسلامية للأطفال المولودين في فرنسا.
إلا أن مشهد فرار آلاف الأوروبيين من الحرب في أوكرانيا طغى على زخم القوى المناهضة للمهاجرين.
وأعلن ماكرون على الفور أن فرنسا “ستأخذ حصتها من اللاجئين”، وأيد معظم المرشحين الآخرين فتح الحدود إلى حد ما أمام اللاجئين الأوكرانيين.
إلا أن زمور – الذي أعلن مرة أنه يحلم ببوتين فرنسي – تمسك بخطه المتشدد بشأن الهجرة، واقترح أنه بدلا من دعوة الأوكرانيين إلى فرنسا، يجب على الحكومة دعم جهود بولندا في معالجة أزمة اللاجئين.
بعد أن هبط زمور إلى المركز الخامس في استطلاعات الرأي، خفف موقفه لكنه حذر من أنه إذا خسر، “فرنسا لن تكون فرنسا بعد الآن”، بل “دولة متخلفة، دون احترام لثقافتها، ذات أغلبية مسلمة، وإفريقية، منتمية إلى حضارة أخرى”.
ويبدو أن موقف زمور السياسي المتشدد ترك أثرا غير مقصود وحول لوبان إلى شخصية تبدو معتدلة.
فمنذ أن خسرت بفارق 2-1 أمام ماكرون في الجولة الأخيرة من انتخابات الإعادة الرئاسية في عام 2017، فقد خفضت حجم المواقف الأكثر تطرفا لحزب التجمع الوطني (الجبهة الوطنية السابق). في محاولة لتوسيع قاعدتها، ولم تعد تتحدث عن التخلي عن اليورو أو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
ومثل زمور، كانت لوبان من محبي بوتين. في العام الماضي، قالت لصحيفة بولندية إن أوكرانيا تنتمي إلى دائرة النفوذ الروسي. ولا يزال حزبها يسدد قرضا لحملة قدرها 9 ملايين يورو من بنك روسي.
وحرصا منها على حرف الانتباه بعيدا عن عبئها الروسي، ركزت لوبان حملتها على القضايا الاقتصادية. اتضح أنها الخطوة الصحيحة.
وتظهر استطلاعات الرأي الآن أن القوة الشرائية هي الشاغل الأول للناخبين الفرنسيين مع اقتراب التضخم وارتفاع أسعار الغاز وسط حرب بوتين. وقدمت تباينا حادا مع رؤية ماكرون التكنوقراطية الشاملة لفرنسا وإجراءاتها غير الشعبية مثل إصلاح نظام التقاعد وزيادة سن التقاعد. وبدلا من ذلك، دعت إلى تخفيضات ضريبية وقارنت الوضع الاقتصادي للنخب في المدن مع الطبقات العاملة المتعثرة في المناطق الريفية، حيث تحظى بدعم قوي.
إلا أن جهود ماكرون في التخلص من سمعته كـ “رئيس الأثرياء” اصطدمت بزوبعة نابعة من استخدام إدارته المكثف لشركة الاستشارات الأمريكية “ماكينزي وشركاه” لصياغة السياسات. وفي تجمع حاشد ضخم قبل الانتخابات يوم السبت الماضي بهدف استعادة زخمه، حذر ماكرون من الخطر الذي يمثله اليمين المتطرف ونصب نفسه حاميا للقيم الفرنسية التقليدية للعالمية والأخوة ضد “أولئك الذين يزرعون سم الانقسام لتفريق وتشظية المجتمع”. ولتخفيف آلام ارتفاع أسعار البنزين، قامت حكومته بتثبيت 15 سنتا مستعادة عن كل لتر يشتريه الشخص من محطة البنزين. كما انتقد بشدة حزب لوبان، الذي وصفه بـ “العشيرة”، لاستنكاره “أفرقة فرنسا”. لم يفوت ماكرون الفرصة للإشارة إلى أنه “لم يكن الشخص الذي سعى للحصول على التمويل في روسيا”.
وفي النهاية، أدت وحشية حرب بوتين وعواقبها الاجتماعية والاقتصادية إلى إسكات الجدل الناشئ حول الهوية الفرنسية. الأسئلة الكبيرة ستبقى بعد الانتخابات: ما هي فرنسا؟ من هو الفرنسي؟ إلى أين تتجه فرنسا؟ في الوقت الحالي، تم تعليق هذه المناقشة. التهديد الأكثر إلحاحا ليس الأفكار من الغرب ولكن الطموحات التوسعية لفلاديمير بوتين.
الحرب لم تخلط الأوراق الفرنسية بعد. قد تبعثرها مستقبلا. أروبا التي استكانت للرفاه و قوارير الإعلام الجاهزة والجدل حول مهاجرين بسطاء من إفريقيا، والاعتقاد بأنها في أمن وأمان، وبأن أمنها سيصقل بعد مرور سنوات عن انتهاء الاتحاد السوفييتي، و بأن هذا الأمن سيصقل أكثر مع دفن العثمانيين الجدد في تركيا … هذه الأروبا بعد الهزيمة سوف تستفيق على صباح جديد بدون الأذرع الأمريكية التي كانت تحتضنها، وستستيقظ على دمار الأكاذيب التي تم حبكها لخوض حرب ضروس بالإعلام و تحريض الأوكرانيين و توظيف رئيس أوكراني مهرج، وستدرك أنها رهينة للغاز الروسي أو الإيراني أو العربي بعد أثبت أهميته الحيوية للأروبيين، و سترى أوكرانيا جديدة في خاصرتها كما لو أنها بركان خامد أو شعب متذمر من مؤامرة الغرب على أوكرانيا الجميلة، وسوف ينتهي حلم أروبا بالتوسع و كسب الحرب نهائيا ضد القياصرة الجدد، و سوف تجري في العروق “الصافية” للغرب دماء من شتى البقاع، وقد يكون الحل من جديد في تصاعد أفكار يسارية نافعة للاستدفاء و الاعتقاد من جديد بالمستقبل، حيث تسرعت فرنسا للأسف في إهدار موعد هام مع المرشح اليساري لوك ميلانشون ، الذي فقد هذه الانتخابات بنقطة ، و ذهبت فرنسا إلى البلادة .
المخلوق زمور ذهب إلى غير رجعة