في موقعها الرسمي على شبكة الإنترنت، تعلن مجلة «غرنيكا» Guernica، الإلكترونية الأدبية التي تأسست سنة 2004 بمبادرة شخصية وغير ربحية، أنها تنشر أعمال التشكيل والتصوير الفوتوغرافي والقصة والشعر والرسائل والتحقيقات ومقالات الرأي والمقابلات مع رجال الفنون والآداب والموسيقى والسياسة؛ وأنها تشجع كتّابها على استكشاف «تقاطع الطرق بين الفنّ والسياسة». يميزها، كذلك، أنّ الغالبية الساحقة من العاملين في مطبخ التحرير تتألف من متطوعين لا أجر لهم، سوى المثوبة المعنوية.
وهي، على الموقع الرسمي أيضاً، تفاخر بأنّ في عداد محرّريها شخصيات مثل نوام تشومسكي، ومرغريت دوراس، وأميتاف غوش، وجورج ساوندرز، وأمارتيا سين؛ وبين الكتّاب ثمة كاميلا شمسي، ونغوجي واثيونغو، وها جين، ودون دليلو، وهوارد زن. وإذا كان صحيحاً أنّ خطّ المجلة العامّ يراوح بين يسار معتدل وليبرالية تنويرية وحداثة طليعية، فإنّ المجلة فتحت أبوابها أيضاً لترهات مجانية أو رجعية أو حتى عنصرية عند أمثال دجال فرنسي مثل برنار – هنري ليفي، أو ألعوبة في الاستعداء على الإسلام والمسلمين مثل أعيان حرسي علي.
النزوع إلى التوسّط، الزائف حين يتوهم إمكانية التكافؤ بين حقّ وباطل؛ ونهج الإمساك بالعصا من المنتصف، حيث أرجحية الميل يميناً أو يساراً ليست محكومة دائماً بضمانات كافية؛ أوقع المجلة في مطبات سابقة لم تكن كثيرة كما يتوجب التنويه، ومعظمها ترك ندوباً على الصورة العامة للمطبوعة من دون أن يلطّخ جذرياً ما تتمتع به من ثقة عالية نسبياً. حتى جاءت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، فوقع التحرير في خطأ اتضح أنه كان جسيماً، إذا لم يفترض المرء أنه فادح وستكون له عواقب بعيدة الأثر.
ففي تحديثها ليوم 4 آذار (مارس) الجاري، نشرت المجلة مقالة بعنوان «من حوافّ عالم منكسر»، وقّعتها الشاعرة والمترجمة الإسرائيلية جوانا شين، تسرد فيها تفاصيل تجربتها الشخصية في السعي إلى جسر الانقسام مع الفلسطينيين قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وبعده؛ فكان أن أثار قرار النشر غضبة عارمة لدى طاقم التحرير. 10 من هؤلاء سارعوا إلى الاستقالة احتجاجاً على ما اعتبروه «خيانة لخطّ المطبوعة التحريري»، وأمّا الناشر المشارك مادوري ساستري فقد ذهب أبعد ودوّن على موقع X أنّ مقالة شين «تحاول تلطيف عنف الاستعمار والإبادة». بعد أيام قليلة اختفت المقالة من الموقع، مع عبارة تقول: «تأسف غرنيكا لأنها نشرت هذه المادة، وقد سُحبت الآن».
أبريل زو، إحدى المستقيلات، دوّنت على المنصة ذاتها أنّ المقالة «تفشل في، أو ترفض عامدة، تشخيص هيئة السلطة ــ وهي، في هذه الحالة، سلطة عنفية، إمبريالية، استعمارية ــ تجعل النزع المنهجي والتاريخي لإنسانية الفلسطينيين (وهذا هو السبب المبطّن وراء إحساس الكاتبة بالحاجة إلى تأكيد ‘إنسانية مشتركة’) قضية غير واردة». مايكل آرشر، أحد مؤسسي المجلة، قال إنّ الإدارة تعكف على إعداد ردّ مفصّل، و»سبب تأخرنا في إصداره يعكس إدراكنا لخطورة ما أثارته من مظاهر قلق، وكذلك التزامنا بمعالجة الأمر على نحو ذي معنى».
والحال أنّ مقالة شين نموذج جديد على نسق سائد لدى عدد من كاتبات وكتّاب دولة الاحتلال، ينهض على رؤية الشخصية الفلسطينية عموماً، والفلسطيني تحت الاحتلال خصوصاً، بوصفه ذلك «الآدمي» الذي يمكن الإشفاق عليه من زوايا عديدة؛ وعبر طرائق من الطراز الذي تتفاخر شين بأنها مارسته، أي نقل الأطفال الفلسطينيين المرضى عبر الحواجز العسكرية الإسرائيلية. وهذه عقلية تعترف بوجود احتلال (وإلا فكيف تقنّع عواطفها الإنسانية تجاه الفلسطيني ضحية الاحتلال)، وأمّا في العمق فإنها تشارك فعلياً في تجريد الفلسطيني من إنسانيته عبر إغفال حقائق الاحتلال الأخرى الكبرى؛ مثل الاستيطان والعنصرية والأبارتيد وجرائم الحرب. وكما فعل دافيد غروسمان قبلها، «حماس» هي الإرهاب، مرتكبة «الجرائم المروّعة»؛ وأمّا الجيش الإسرائيلي فهو «قوّة احتلال» في أسوأ توصيفاته، وليس أكثر من الإشفاق شعوراً (لدى شين، تحديداً) إزاء ما يتواتر من أخبار على هاتفها: قصف المشفى المعمداني، والكلاب التي تأكل جثث المرضى/ القتلى في باحات المشفى وخرائبه…
وضمن انطباع شخصي، توقفت هذه السطور عند واحد من أكثر جوانب مقالة شين استفزازاً، ليس في مستويات سياسية وأخلاقية وإنسانية فحسب، بل كذلك جمالية عموماً وشعرية على وجه الخصوص؛ لأنها فصلت أقسام مقالتها بمقاطع شعرية مترجمة عن العبرية للشاعر الإسرائيلي يوناتان بيرغ، ولا غرابة في هذا؛ ومقاطع أخرى مترجمة من العربية للشاعر الفلسطيني الغزاوي ناصر رباح، وهذا إسفاف صارخ خاصة حين تتساءل شين إذا كان الشاعر… معتقلاً لدى «حماس»!
تاريخ الخطّ التحريري لمجلة «غرنيكا» يمكن بالفعل أن يشفع لها أو يمنحها فضيلة الشكّ في أن يكون نشر مقالة الإسرائيلية شين مجرد كبوة، شريطة انتظار بيان الإدارة حول الواقعة المثيرة للجدل. غير أنّ هذا السعار الذي تنتهجه مجموعات الضغط المساندة لدولة لاحتلال الإسرائيلي في قطاعات الثقافة المختلفة على امتداد الديمقراطيات الغربية يمكن، في المقابل، أن يمنح الحقّ في الافتراض بأنّ الواقعة ليست أقلّ من سقطة.
الأمر الذي، في الحالتين، يستوجب المساءلة الصارمة.