يسأل أحدهم، يبدو من لهجته أمريكياً، في فيديو على إنستغرام أن «هل مازلت تقف مع إسرائيل إبان كل ذلك؟ هل مازلت تقف ضد العقول العظيمة في العالم مثل نعوم تشومسكي ونورمان فنكلستين، هل مازلت تقف ضد غابر ماتيه، هل مازلت تقف ضد قيم نيلسون مانديلا أو دكتور مارتين لوثر كينغ جونيور أو مالكوم إكس، هل ما زلت تقف ضد «أطباء بلا حدود»؟ أنت تقف ضد «أمنستي إنترناشونال»، أنت تقف ضد «هيومن رايتس ووتش»، وفي حالات محددة ضد «بيت سالوم» التي هي مؤسسة حقوق إنسان إسرائيلية. هل مازلت تقف ضد هؤلاء الأشخاص؟ ومع من تقف أنت؟ أنت تقف مع بايدن وأنت تقف مع ترامب، كلاهما بطريقة ما، وأنت تقف مع هيلاري كلينتون وضد كل العقول العظيمة في مجال حقوق الإنسان على مدى كل العصور. لذا، أهنئك على ذلك، أتمنى أنك سعيد برهائنك الأربعة المحررين».
يوجه المتحدث حديثه للجمهور الغربي الذي، البعض منه، لا يزال يساند أعتى رموز الشر، يخاطب فيهم ليس فقط العقل والمنطق ولكن كذلك الأنانية البشرية، أن على أي جانب تودون أن «تسجلوا» موقفكم؟ هل تريدون للتاريخ أن يتذكركم أو على الأقل لأنفسكم أن تتذكركم وأنتم في جانب أسوأ الأنماط التي مرت على التاريخ البشري؟ هل حسبتم حساب السنوات القادمة التي ستهبطون سلالم زمنها يداً بيد مع أفظع أنماط السياسيين الدمويين الدكتاتوريين؟ فعلياً، لو كان الأمر الفلسطيني الصهيوني «معقداً» كما يدعي البعض أو مضبباً غائماً خصوصاً بالنسبة لغير المطلع أو البعيد عن المشهد، فيكفيهم مؤشراً أنواع البشر المنحازة للجانبين، يكفيهم دليلاً الأسماء المرعبة الهابطة الموجودة على الجانب الصهيوني، وحدها كافية، إن لم تكن كل الدلائل الحالية المرئية والمسموعة لحظياً تفي بالغرض؛ لأن تجعل هذا الجانب ملوثاً أخلاقياً وإنسانياً وقيمياً.
هذا الحديث موجه للجمهور الغربي، جمهور يفترض أنه بعيد بعض الشيء عن القضية الفلسطينية وحيثياتها، جمهور خُدع لسنوات طويلة عبر إعلامه وسياسييه وكل مواده المقروءة والمسموعة حول الحقائق والمعلومات، جمهور تصدرت له صورة مزورة، وغَسلت عقوله أصوات سياسية كاذبة، وحَجّمت إرادته مخاوف «معاداة السامية» التي أرعبته حكوماته ووعاظ سلاطينه بها. فما بال بعض الجمهور العربي بشعبه وسياسييه؟ أي خداع عانوا وأي صورة مزورة تصدرت له وأي مخاوف من اتهامات بعنصرية حجّمت إحاطته بالموضوع؟ الجمهور العربي يحيط بهذه المأساة، مكانياً ومعنوياً، من وبكل جوانبها وعلى مدى ما يقرب من المئة سنة الآن. لطالما كانت القضية الفلسطينية هي قضيتنا الحقوقية، الإنسانية، والوطنية الأولى، عايشنا حقائقها ووقائعها، درسنا مدرسياً جوانبها وحيثياتها، تغنينا بها ولها في أشعارنا وأغنياتنا وأدبياتنا المختلفة، فأي خديعة يمكن أن تبرر مواقف البعض منا؟ أي «غسلة مخ» أو تشويش وتشويه إعلاميين يمكن أن يفسروا تحولات البعض وانقلاباتهم؟
بعد وقوع مجزرة مدرسة التابعين، واحدة من ضمن آلاف المجازر منذ السابع من أكتوبر، خرجت مظاهرات حول العالم تندد بالجريمة البشعة من النرويج إلى أستراليا إلى ألمانيا إلى اليابان، من بين العديد من المظاهرات الشعبية، منددة ساخطة، خرجت شعوب معظم العالم إلا شعوب العالم العربي، لم يخرج أحد. لم يقف خوف الشعوب المعتصمة المتظاهرة من رد فعل حكومتها في وجهها، ذلك أن مفهوم الحرية والحق في التعبير متأصل في أرواحهم ونفوسهم، فما إن تكشفت لهم حقيقة القضية الفلسطينية وتبدت لهم بشاعة الكيان الصهيوني حتى صدحت الأصوات وتشكلت الاعتصامات وتكونت المظاهرات. أما نحن فخوفنا يشلنا، ومواقف حكوماتنا تكبلنا، رغم كل المتكشف لنا ورغم علمنا العميق بالحقيقة ومعايشتنا المستمرة للجريمة. في عز المأساة، سكت بعضنا خوفاً وانقلب بعضنا الآخر على القضية مؤازرة للسياسات الجديدة التي حولت العدو الدموي إلى نديم على طاولة عشاء، سياسات التفت كحبال صوف على الأعناق تجرجرها بعيداً عن المنطق والإنسانية والحق البيّن.
ماذا دهانا؟ أي بله حل على عقولنا وأي برود وسماجة توسطتا أرواحنا؟ لماذا لسنا أكثر غضباً وتفاعلاً وتحركاً تجاه واقعة إبادة دموية فاحشة تحدث في «حيّنا»، على مرأى ومسمع من أعيننا وآذاننا وتجاه جيران نشترك معهم في كل ما يشكل إنسانيتنا؟ أتفهم تحكم سلطة الخوف وعادة الرضوخ واستتباب فكرة الطاعة والتبعية، وأن قروناً من هذه السلوكيات الاجتماعية والأيديولوجية يصعب مقاومتها والتغلب عليها، لكن والأطفال تقطع أشلاء في الباحة الخلفية لعالمنا العربي، كيف لا نزال عبيداً لمفهوم الطاعة والشعور بالخوف؟ كيف لم يُخرجنا كل هذا الفقد والدم من واقعنا وطبعنا؟ ماذا بنا؟ لم نحن هكذا؟