غناء بيروت وبكاؤها

أول مرة زرت فيها لبنان، كان في صيف عام 1999. ذهبت أولا لأرى ذلك البلد الذي لا ينقطع الحديث عنه في كل المحافل، البلد الجميل والمثقف كما يذكر، والبلد الذي يشد إليه الحواس بمقاهيه وضجيجه، ونظرات عشاقه، وصخرة الروشة القابعة في مكان ساحر من البحر.
أيضا كنت أنوي أن أنشر كتابي «مرايا ساحلية» تلك السيرة التي كتبتها عن مدينتي بورتسودان، راصدا أجواءها في بداية السبعينيات، حين كنت غضا ما أزال، وكنا نقيم في بيت صغير في وسط المدينة، يفتح أحد بابيه على السينما، والآخر على حوادث المستشفى الرئيسي، والوحيد في ذلك الوقت، وبالتالي كان ثمة كنز من الحكايات، يمكن التقاطه هناك، وكتابته في ما بعد في السير والروايات.
كانت بيروت كما تخيلتها دائما، مدينة جميلة، محبة وراقية، وسهل جدا أن تعثر فيها على من يمكن أن يتذوقك ويساعدك في تعقب أحلامك، وربما الوصول بك إلى برّ كنت تظنه صعبا. تلك كانت البدايات، حيث لا اسم ولا صيت ولا مستقبل كتابي يمكن توقعه، حتى لو تم نشر الكتاب، لكنني كنت مصرا، وكما رهنت ساعة رولكس ذهبية لأنشر كتابي الأول في مصر، أواخر الثمانينيات، بعت هذه المرة سيارة زرقاء قديمة، من طراز مرسيدس، كنت أملكها، اقتنيتها شيخة، وشاخت أكثر عندي، وسافرت بثمنها القليل.
من اليوم الأول، وفي فندقي الذي سكنت فيه في منطقة الحمرا، منبهرا بأداء المدينة، ونتيجة لوصايا من أصدقاء، زارني الصحافي أمين مصطفى، وكان مديرا لمكتب الوطن القطرية هناك، زارني مرات عديدة، وتسكع معي في المدينة، ملغيا رهبة معانقتي الأولى لها، وغارسا لي في لحم حياتها، أيضا زارني صديقنا الكبير شربل داغر، زارني هكذا ببساطة، وكان كبيرا بأبحاثه وشعره، وصيته الأكاديمي، بينما كنت مجرد كاتب مغمور يبحث عن مدخل، يمكن أن ينفتح أو لا ينفتح، وعن طريق شربل، وبتوصية منه، نشر كتابي في المركز الثقافي العربي، لتحدث نقطة انطلاق جديدة، ومشجعة، أكملت بعدها ذلك الدرب الذي لا يكتمل أبدا، لكن يهب المسرات حينا، والخيبات أحيانا.
المرة الأخيرة التي زرت فيها لبنان، كانت منذ عامين، زرته بمناسبة مهمة بالنسبة لي وهي تدشين روايتي التاريخية «جزء مؤلم من حكاية» في حفل ستنظمه بلدية طرابلس، وتنسقه الزمـــــيلة ضحــــى عبد الرؤوف المل، وأيضا لإجراء حوار تلفزيوني مع الصديق زاهي وهبي في برنامجه «بيت القصيد».

كل من تسأله الآن يرد بأنه بخير لكن البلاد ليست بخير، وقريبا سيكون الجميع بخير والبلاد بخير، ويكون بوسعنا نحن من أكرمهم لبنان عامة، وبيروت خاصة، أن نعود مرة أخرى، نتمشى في ردهات الجمال، وننشر الكتب، ونوقعها في احتفالات بهيجة.

بيروت التي رأيتها في المرة الأخيرة، ليست بيروت الأولى، وأعني من الناحية العمرانية، إنها مدينة تطورت جدا أسوة بالمدن كلها، ظل وسط المدينة هو وسط المدينة، مع زيادات كثيرة في المرافق والمتاجر، والمقاهي، التي اختلف رونقها عن رونق التسعينيات بكل تأكيد، التقيت بكثيرين كنت أعرفهم أسماء، وكانوا عند حسن الظن، التقيت برشا الأمير، الناشرة الروائية ومنحتنا مكتبها وحديقتها لنسجل مشاهد من برنامج «بيت القصيد» التقيت بكتاب ومثقفين وفنانين، وسحت في المدينة التي لن تمنع سائحا عن عناقها أو التغزل فيها، ودشنت روايتي في مدينة طرابلس وسط شخصيات عظيمة ولامعة، واكتشفت أن الأدب ليس مجرد لقم بسيطة، يتم تناولها أحيانا في لبنان، وإنما وجبات كاملة، يحبها الجميع، ويسعون إليها. لقد كنت سعيدا تلك الأيام التي قضيتها هناك، سعيدا بوجودي في مكان حلم، وبتكريم كرمته، ولم أكن أستحقه فعلا. وعدت من سفري لأظل أياما طويلة، أحلم بالسفر مرة أخرى إلى هناك، أكثر من ذلك، تمنيت أن أجلس في مقهى أو ردهة فندق أشهرا لأنجز رواية.
الآن بيروت جريحة، لبنان كله جريح، البلد الذي تعذب مؤخرا بأزمات لا تشبهه وليست من طبعه بسبب سياسات كثيرة غير ناجحة، وأشياء أخرى مزعجة، تنفجر في مرفئه مادة خطيرة كانت محجوزة في مخزن هناك لسنوات، من دون أن يعرف أحد لماذا هي هناك؟ ولماذا أتت؟ وما المصلحة في وضع السم وسط الجمال؟
بالطبع مات كثيرون، وجرح كثيرون جدا، وتحطمت بيوت ومكاتب ومنشآت حيوية، وبات الوجود خطرا، والهواء خطرا، والبلاد في دوامة فوضى، والأهم من ذلك، ما اعترى النفوس من وهن، ذلك الوهن الذي لا بد يمسك بالنفوس في تلك الظروف.
ولأن العالم كله يحب بيروت، لن تترك في رأيي، لأي مصير آخر، غــــير عودة الجــــمال، ستمتد حبال كثيرة للمساعدة، حبال لإزالة الضرر المادي الذي حدث، وحبال معنوية لمداواة النفوس الجريحة.
كل من تسأله الآن يرد بأنه بخير لكن البلاد ليست بخير، وقريبا سيكون الجميع بخير والبلاد بخير، ويكون بوسعنا نحن من أكرمهم لبنان عامة، وبيروت خاصة، أن نعود مرة أخرى، نتمشى في ردهات الجمال، وننشر الكتب، ونوقعها في احتفالات بهيجة.

٭ كاتب سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول _خليل_@ عين باء:

    كم هو مفجع ان تكون مدينة بكل هذا الجمال السالب للالباب و بهذا الكم الوفير

    من اهل الثقافة و الفن و الذوق العالي و الفكر النير و يتلاعب بها شلة من امراء الحرب
    _
    مرتزقة الفتنه هي اخت غرناطة في زمان الاندلس لم يهدأ لملوك الطوائف بالهم حتى سلموها

    هدية لغيرهم و هاهم ابناء ماما فرنسا في طور التسخين

    تحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية