بعيداً عن البشر حيث لا وجود لآدمي، نستمتع بحكايات القطط في اجتماعهم السنوي المهم الذي يجب أن ينتهي باختيار أحدهم ليصعد إلى جنة القطط، ويعود بحياة جديدة يعيشها كما يشاء، هذه الحكايات نظمها شعراً ت. س. إليوت في كتاب Old Possum’s Book of Practical Cats أو ما يعرف بـ»ديوان القطط»، وقام الموسيقي البريطاني أندور لويد ويبر بتحويلها إلى غنائية كبرى عرضت لعقود ولا تزال على مسارح لندن وبرودواي، وتبدو كأحد مظاهر النزاع الأمريكي الإنكليزي المستمر على إليوت، الذي تمرد على أمريكيته واختار أن يكون بريطانياً، في هذا العمل وعلى الرغم من القليل من الحذف والإضافة، واستدعاء قصائد أخرى لإليوت من خارج كتابه، فإننا في النهاية نستمع إلى أشعاره وإيقاعاته وأفكاره وأسلوبه الخاص وكلماته الغريبة التي يختلقها اختلاقاً وتبدو مبهمة لا معنى لها، لكننا نفهمها في إطار القصيدة ويكاد يتحول الأمر إلى لغة خاصة بيننا وبينه، أما موسيقى ويبر، فنجد فيها الكثير من الغطرسة والعجرفة التي تتسق مع قصائد إليوت الرفيعة، وغرور القطط، والجبروت الإنكليزي المعهود في الإتقان وإثبات التفوق، وتعد هذه الغنائية من أهم أعماله إلى جانب «شبح الأوبرا» و»إيفيتا» ويميزها التنوع والتعقيد الذي استمده من إليوت وقصائده التي كتبها عن مجموعة من القطط المختلفة بأسمائها وأنواعها وألوانها وسماتها الشخصية وتركيباتها النفسية ومعاناتها وأحزانها وذكرياتها.
وقد انتقل كل ذلك إلى الغناء أيضاً، فلكل قط موسيقاه وإيقاعه وطبقة الصوت وتكنيك الأداء الخاص به، فهناك القطة السوبرانو والقط التينور والقط الباريتون والقطط الأوبرالية وقطط الكورال الكنسي، ولا ننسى القط مغني الروك، فمن المثير أن نستمع إلى قصيدة إليوت «رام تام تاغر» كما هي تماماً كأغنية روك خالصة، وقد منح ويبر لنفسه أوقاته الموسيقية الخاصة، بعيداً عن القصائد كما في المقدمة الطويلة، والفاصل الموسيقي الطويل أيضاً في المنتصف، بالإضافة إلى الفواصل القصيرة المتفرقة والثيمات الموسيقية المرتبطة ببعض القطط ومن أهمها تلك الثيمة الخاصة بالقطة غريزابيلا وما فيها من حزن مهيب يليق بذهاب الجمال، فهي قطة تقدم بها العمر تسير وحيدة في منتصف الليل على ضوء القمر بينما تفكر في جمالها الذي كان، وما أقسى أن تقول القطة: كنت جميلة.
نستمع بحزن إلى فكرة التنافر مع الزمن الحاضر وعدم التوافق مع الواقع المتكررة لدى إليوت في أغنية «غوس» القط الممثل الذي تقدم به العمر ويتذكر كم كان بارعاً إلى درجة القدرة على التمثيل بذيله.
كتب إليوت قصيدة بعنوان «غريزابيلا القطة الفاتنة» لم تنضم إلى ديوان القطط وظلت منفردة مثل غريزابيلا في الغنائية التي نراها وحيدة تماماً بينما بقية القطط مع بعضهم بعضا يعرف كل منهم الآخر، ويتشاركون في سرد حكاياتهم، أما هي فلا يكاد يتعرف عليها أحد أو يصدق أن هذه القطة التي أتعبتها السنين وأنهكتها الأيام هي غريزابيلا القطة الفاتنة، موسيقياً يعد حضور هذه القطة هو الأقل زمنياً لكنه الأكثر جلالاً وأناقة، وأغنيتها الوحيدة «ميموري» هي من أشهر الأغنيات على الإطلاق وفيها تتذكر جمالها وحياتها في السابق، عندما أحبت وعرفت معنى السعادة، لا تبدو هذه القطة «الفرد» منشغلة بالانضمام إلى جماعة القطط أو الحصول على اعترافهم بها، أو الظهور بينهم، لكنها تسعى إلى الصعود إلى جنة القطط والعودة بحياة جديدة، وهو ما ستتمكن من تحقيقه بالفعل، ستظل فرداً وستصعد وحيدة وستعود وحيدة إلى أن تلتقي بحب جديد، ولحضور هذه القطة القصير أهمية كبرى شعراً وموسيقى، فهذه القصيدة تحمل بعض السمات المهمة في شعر إليوت والمتكررة في أعماله الأخرى كقصيدة «الأرض الخراب» وقصيدة «بروفروك» كالصراع مع الحداثة والانهزام أمام الزمن والحزن والتعاطف والوحدة والتردد، هذا التردد الذي عبرت عنه الموسيقى أبلغ تعبير بمحاولات الدخول غير المكتملة لغريزابيلا، فما أن نسمع موسيقاها حتى تختفي تماماً، ويتكرر الأمر أكثر من مرة حتى تتمكن في النهاية من غناء حكايتها، ثم تختفي بصعودها إلى جنة القطط في النهاية، وتذكرنا هذه القطة التي تسير وحيدة حزينة بسبب تقدمها في العمر، بما قاله إليوت على لسان بطله بروفروك عندما كان يسير وحيداً بينما يسيطر عليه الهلع والشعور بالحزن والعجز وعدم القدرة على فعل أي شيء، فأخذ يردد: إنني أتقدم في العمر إنني أتقدم في العمر.
كثيرة هي القطط وأغنياتها في هذا العمل ونجد أنفسنا في فيض متلاحق من كلمات قصائد إليوت الطويلة الغزيرة، فهي ليست قصائد فقيرة بالكاد، أمسكت ببضعة كلمات وتكررها ببؤس بالغ، وموسيقياً لا يمنحنا ويبر فرصة لالتقاط الأنفاس، وهناك من الأغنيات لا نتخيل كم تتطلب من الوقت، وعدد مرات التدريب للتمكن من حفظها، كأغنية «سكيمبل قط القطار» السريعة اللاهثة، حيث لا مجال للتوقف أو القفز خارج هذه الأغنية التي انطلقت بالسامع وانتهى الأمر، وكم أبدع ويبر في التعبير عن حال القطط في الحانة التي يغني فيها بيلي ماكو ونشوة الاستماع إليه، والمشاعر والأحاسيس والعواطف التي تركزت وتكثفت على شكل دمعة في عين كل قط، ويشبه التصاعد في الموسيقى والغناء قفزات القلب النشوان من فرط المتعة التي تصل إلى حد الجنون.
ونستمع بحزن إلى فكرة التنافر مع الزمن الحاضر وعدم التوافق مع الواقع المتكررة لدى إليوت في أغنية «غوس» القط الممثل الذي تقدم به العمر ويتذكر كم كان بارعاً إلى درجة القدرة على التمثيل بذيله، ولا يعجبه ما صار إليه المسرح في الوقت الحالي وتهريج القطط وعدم الاتقان في الفن وانعدام الجودة، ويعيش أسير نجاحه الباهر في أعظم دور لعبه ويعتقد بأنه سيخلده في التاريخ، أما «رام تام تاغر» نجم الروك بحضوره الموسيقي الصاخب المضيء، القط الذي لا يهدأ ولا يرضى ويفعل كل شيء بطريقته الخاصة، وإذا توفر له مكان رغب في مكان آخر، وإذا وجد طعاماً اشتهى طعاماً غيره، ويحب أن يقتحم جميع الأماكن ويفتح جميع الأدراج المغلقة، لكنه لا يطيق البقاء في أحدها، هذا القط الفضولي الملول لا نملك إلا أن نحبه بأخطائه وغروره وجاذبيته وارتعاشات صوته التي لا تقاوم.
٭ كاتبة مصرية