عندما تشتري العتبة الخضراء، كما فعل إسماعيل يسين في فيلمه الشهير، وتحاسب على أجرة ركاب الترام الذي تملكه الدولة، من الطبيعي ان تتحول لمادة للسخرية..’ولكن ان يشتري شعب كامل ودولة لها تاريخ كبير، الأحلام التي يتصورها غيرهم، بوصفها حقائق من دون معرفة جوانبها على أرض الواقع، فالأمر يبدو مختلفا عن كوميديا الفيلم. وعندما يتم التعامل مع الأحلام أو الأفكار العامة المقدمة ممن يطرحها بوصفها أسرارا عسكرية وأمورا لا تُمس، فمجال السخرية قد يكبر أو يصغر حسب الساخر ومدى قربه أو بعده من الحدث.’فالسخرية قد تكون واحدة، ولكن طعمها قد يكون شديد المرارة في بعض الأحيان.
ولأن مصر تمر بتلك الحالة الخاصة التي عليها فيها أن تشتري أشياء غير محددة، وأن تراهن على الوهم، وعلى الكلام العام لبناء المستقبل، فهي تطرح صورة شراء العتبة الخضراء والاعتماد على تمويل الترام بصورة قوية.
يتقدم مرشح للانتخابات من عالم، استجبت للضغوط ورغبة الجماهير ومطالب النخبة، ويؤكد على هذا الاستدعاء بصور مختلفة، تجسيدا لفكرة التكليف من دون الرغبة، والقبول لفهم اللحظة، والمعاناة لصالح الوطن والمواطن الذي يحتاجه.’وما دامت الحاجة قادمة من الجماهير، فالحديث عن رفض الشعب المحتمل في المستقبل مرتبط بشكل ضمني بالخروج على تلك المطالب الجماهيرية نفسها، وكأن الجماهير بهذا تخرج عن وعدها وطلبها وتتركه منفردا للمعاناة. كل هذا من دون أن يكرر المشير علينا حلمه القديم عن رئاسة مصر المدعوم بالسيف الأحمر والساعة الأوميغا، فالحديث عن الحلم القديم يجعل فكرة الرئاسة مطروحة في ذهنه منذ عقود، ومن شأن تكراره إضعاف فكرة الرئيس المختار والمنقذ التي تسيطر على المشهد الحالي بقوة متناسية حديث الحلم ووعد رئاسة مصر.
يتقدم السيسي للانتخابات بلا برنامج واضح، ان افترضنا وجود برنامج اصلا..’فالبعض يتحدث عن وجود البرنامج وتتسابق بعض الصحف في نشر تسريبات من مصادر مقاربة، في حين يتحدث هو عن غيابه، لأن المطالب التي أجبرته على الترشح، والجيش الذي شغل وقته مثلا عوامل حالت دون وضع برنامج. من’دون أن يبرر لنا الحديث الطويل عن المجموعة التي تتولى وضع البرنامج، والقيادة المهمة والشخصيات الشهيرة التي تنتمي لتلك المجموعة.’تكتشف في لحظات ان الكلمات سهلة، وان إشغال الإعلام بكلمات براقة عن لجنة إعداد برنامج وبرنامج قائم ومصر جديدة، هي أفكار عامة أو برنامج من نوع آخر سهل الاختراع والتسويق وصعب المحاسبة، وكأنه برنامج نتاج من عالم المخابرات المكتوب بالحبر السري.
تتعجب طبعا من أن يرتبط هذا بأي حديث عن الديمقراطية التي تمثل جزءا أساسيا من مطالب الإصلاح في مصر، ولكن تكتشف أن الديمقراطية ليست من الكلمات المستخدمة للمرشح الرئاسي المختار أو المنقذ، كما يرى نفسه ويراه من يدعمه.’فالكلمات الأكثر استخداما هي الأمن والإرهاب، ولأن الأمن مفتاح المرحلة فيكفي أن تضعه في جملة مفيدة مع أي نقاش..’فغياب البرنامج مبعثه الأمن والجيش، وعليك أن تكمل الناقص، وهو الدور الذي يتركه لتأييد محاوريه أو قناعتهم بأن تلك الاجابات الصامتة أو الناقصة كاملة المعنى.’أما الحديث عن الديمقراطية فهو مؤجل لأن الأمن ومحاربة الإرهاب أكثر أهمية.
كما أن ميزانية الجيش ونفقاته لا تمس ولا تعلن، لأن الجيش يزداد فخرا بأنه قدم المختار لرئاسة مصر.’في حين ان علاقة مصر وجيشها لا تحتاج لكل المقولات القائمة في المشهد الحالي، التي تعمد إلى تخوين أي انتقاد لما يحدث أو للمرشح الرئاسي او للإداء في محاربة الإرهاب أو في إدارة مصر، ويقدمون أي انتقادات بوصفها انتقادا للجيش وتقليلا من مكانته في تجاوز واضح للمنطق.. فما يحدث أن الكثير من التصرفات الدائرة الآن، كما كانت أثناء المجلس العسكري تضر به وبالصورة الذهنية القائمة، وتحوله لمادة للسخرية اليومية بأكثر من خطاب النقد الهادف، إلى الإشارة إلى سلبيات المشهد القائم ومخاطرها على اللحظة والمستقبل.
أما الحديث عن المشاريع والخطط وأماكنها فيكفيها صوت المشير المرتفع ونبرة صوته الحاسمة، ليؤكد أنها أشبه ما تكون بأسرار عسكرية ولا يصح الحديث فيها..’فحتى الأماكن المحتملة لتلك المنشآت تبدو كأسرار كبرى وكأننا نرسم خريطة للعدو’- غير الواضح بدوره – لاستهدافها.
نجد أنفسنا في عالم يفترض أن يبنى تحت الأرض، فكيف سيعرف الناس عن المشاريع، وكيف ستقام إن أقيمت، من دون ان تعلن عنها ويعرف بها العدو، أم أنها مجرد إعلانات عن إنشاء مصانع سرية حتى لا تستهدف؟ وسنقدم طعاما سريا في الأسواق حتى لا يراه العدو،’وشققا سرية تبنى في أماكن خفية حتى لا يقصفها العدو، وأدوية سرية تصنع وفقا لأسرار كبرى حتى لا يستخدمها العدو من أجل الشفاء من أمراضه، كما حدث من تصريحات حول جهاز علاج فيروس سي المعروف مصريا باسم العلاج بالكفتة.
نكتشف أن الأمن كلمة مفتاحية لكل ما يدور حولنا، ولكن الواقع نفسه يؤكد أن الحديث عن الأمن بكثرة ما هو إلا تعبير عن حديث كل شخص عما يفتقد..’ولأن النظم الأمنية تهتم كثيرا بالأمن والحديث عنه، فعادة ما تسقط أيضا بسببه أو بسبب أحداث مجتمعة أو شرارة صغيرة تنتج ثورة.. فإهانة توجه لمواطن لم يشعر به أحد قبل أن يحرق جسده تكفي لحرق نظام، كما فعل البوعزيزي في تونس، وتعذيب يتم خلف أبواب مغلقة في معظم الأحوال يحرك في لحظة غيره كما حدث مع خالد سعيد، الذي فتح بموته ملف تعذيب دولة، وحملات مثل مياه وملح التي تطرحها السجون كوسيلة انتصار للسجين على السجان توضح قيمة الكلمة والانسان والملح في مواجهة الدبابة.
نقف أمام مرشح يطلق عليه البعض مرشح الضرورة، ويتحدث وهو يدرك هذا فيشرك الشعب معه دوما..’فالشعب اختاره، والشعب شريكه في المسؤولية، والشعب عليه أن يختاره، من دون برنامج.’وهو ما يعني أنه لا يمكن محاسبة السيسي بمفرده، فهو لم يقرر الدخول في الانتخابات إلا لرغبة الجماهير، ولن يقدم حلولا إلا بمشاركتهم، ولا يوجد ما تتم محاسبته عليه في ظل غياب برنامج محدد للعمل.’أما ما يتم تقديمه من رجال حملته أو في الأحاديث المختلفة معه، فهي أمور غير ملزمة في ظل غياب البرنامج، وفي ظل تعدد الأشخاص والمواقف وإمكانية الاستناد دوما إلى السياق والتفسير. البرنامج هو عقد الترشح الذي ينتفي عن المشهد ويجعل الانتخابات نوعا من العتبة الخضراء..’وما يقال لنا من خطط كلمات عامة، أما أسلوب الرد فحوار ممتد لا يقدم إجابات واضحة، ولا مجال للمحاسبة على المئة يوم الأولى ولا العام الأول، وربما على العقود القادمة على طريقة مبارك، بالطبع مع افتراض تحييد حالة الثورة.’وربما يكون البرنامج الخفي للمرحلة القائمة والقادمة هو استعادة جزء من دولة مبارك ودولة عبد الناصر لتثبيت الحكم والتعايش مع حالة الأمن والتقشف المطروح للشعب ما دامت الاوميغا متروكه لصاحبها.
يتحدث الجميع عن سخرية الشعب المصري، ولكن الأيام تثبت أن مادة السخرية تتسع أكثر وأكثر مع تطورات الواقع وكلمات النخب، فما أسهل أن تكون ساخرا في واقع كل ما فيه ساخر لحد الموت قهرا، أو الحياة أملا في لحظة انتصار حقيقية لروح الوطن المفتقد.
كاتبة مصرية
عبير ياسين
مقال جميل وحقيقي اعان الله المصريين على الايام القادمه المملوءة احلام جوفاء.من الضروري الضروره الضار.الضار…….
السيسى بكل ماتم وصفه به يؤيده قطاع كبير من الناس وينظرون اليه باعتباره امل فى غد افضل …