غدت حركة السلام الإسرائيلية أثراً بعد عين. لم يستجدّ ذلك اليوم. بل الحال على هذا المنوال منذ عشرات السنين.
مع هذا، تجد الناس منقسمة خارج إسرائيل على نحو يقارب العبثية. رهط يرى الحل في «الدولتين» ورهط يراه في الدولة الموحدة للعرب واليهود معاً. ما لا يجيب عنه الرهطان هو عن كيفية المضي شطرَ أحد الحلين بعد أن اندثرت حركة السلام الإسرائيلية مع الفلسطينيين.
لقد تفرّقت حركة السلام قبل أن تنسد السبل بعملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. فالمسار التفاوضي الذي دشنه اتفاق أوسلو راكم تجربة انتقالية دامت لسبع سنوات قبل أن تصل في آخر الأمر إلى طريق مسدود مع مفاوضات الحل النهائي، إبان قمة كامب ديفيد في شهر يوليو 2000 بين الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي باراك أوباما ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات. انتقلنا بنتيجة فضّ هذا المسار، بشكل وخيم، ومن خلال القمع الإسرائيلي للانتفاضة الثانية، إلى أفول ثنائية حزب العمل في مقابل حركة فتح، والانتقال إلى ثنائية الليكود في مقابل حماس والجهاد.
لكن حركة السلام الإسرائيلية كانت قد تقطعت بها السبل قبل ذلك. فهي لم تستفق بالأساس من اغتيال إسحق رابين في الرابع من نوفمبر 1995 على يد ايغال عامير، اليمني الأصل.
يوم أقدم ايغال على فعلته هذه لم يكن قد مضى وقت طويل على إيثار فتاة أشكينازية قطع العلاقة العاطفية معه بضغط من أهلها، كونه من الشرقيين. لكن الشاب اليمني المتطرف سيتمكن من قتل الزعيم الأشكينازي لحزب العمل بدعوى أنه قد حُرّم التنازل عن شبر واحد من أرض إسرائيل التوراتية. هذا مع أن رابين كان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في حرب 1967، وصاحب باع أساسي في تمكين إسرائيل من احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان.
يصعب اليوم تخيل ما الذي كان بمقدور رابين أن يقدم عليه في مفاوضات الحل النهائي، لو لم يقم هذا الهلفوت باغتياله. لكن رابين كان يظهر عليه أنه متجه لحمل حل الدولتين على منكبيه. ولو أن ياسر عرفات عمد بعد مصرع الرجل إلى بث صورة مثالية خرافية عن «الشريك الراحل في عملية السلام».
ليس تفصيلياً أبداً أن يكون قاتل رابين شاباً يهودياً يمنياً. من يومها يقبع عامير في السجن، ويتظلم له غوغائيو اليمين المتطرف لإخراجه. في المقابل، طيف عامير هو الذي يحكم إسرائيل. فعامير سنّ قانوناً ساري المفعول عليها من وقتها. يقول هذا «القانون» أنّ «حل الدولتين» ومهما تخففت الدولة الفلسطينية بموجبه من عناصر السيادة، فيه تهديد فعليّ للوحدة الوطنية للمجتمع الصهيوني.
فهذا المجتمع يمكن أن يتدبر أمره بالتي هي أحسن بين أشكينازييه ومزراحييه، وبين علمانييه ومتدينيه، وبين أغنيائه وفقرائه، وبين الموروث في ثقافات الشتات وبين المرغوب الانقطاع عنه من هذا الموروث. لكن المجتمع الصهيوني لا يستطيع التعايش مع «حل الدولتين» دون أن يُصاب بالتناحر داخله. هذا فحوى عملية اغتيال رابين.
ومن يومها لم يعد لمعسكر السلام في إسرائيل حيثية راكمها من داخل الصهيونية أو على تخومها في عقد الثمانينيات.
هذا العام غارق في الدم وإسرائيل مجتمع «ليكودي» أكثر من أي وقت. يسري ذلك أيضاً على المتأففين من نتنياهو ضمن هذا المجتمع
فمعسكر السلام لم يستطع الإجابة على السؤال الذي تطرحه عملية اغتيال رابين. إذ كيف يمكن السير بحل الدولتين ان كان هذا الحل سيعرّض بالتماسك المجتمعي والسلم الأهلي في الدولة العبرية؟
الفزاعة التي حرّكها اليسار الصهيوني لم يظهر أنها نفعت. لقد حرّك هذا اليسار فزاعة أن يؤدي رفض حل الدولتين إلى الاضطرار في آخر الأمر، ولو بعد أجيال، إلى حل الدولة الواحدة، ومن ثم إلى تكرار نموذج لبنان، حيث كانت خسارة المسيحيين فيه لصدارة كيانية عادت لهم في البدء.
اليمين الصهيوني رفض هذه المماحكة. فهو القائل بأنه ما من داع للبحث عن حل مع الفلسطينيين أساساً. «الحل» هو مسألة تعني الفلسطينيين فقط فيما بينهم.
لئن قال «قانون يغال عامير» بأن اعتماد حل الدولتين فيه تهديد للعيش المشترك بين اليهود أنفسهم في إسرائيل، فإن القانون المكمّل له هو الذي بلوره بنيامين نتنياهو نفسه بعد ذلك.
مفاده أن الوحدة الوطنية بعد اغتيال رابين الأشكينازي اليساري على يد عامير المزراحي اليميني لا يمكن أن ينهض بها سوى الأشكينازي اليميني العلماني في تكوينه، إنما الذي يستوعب لغة الصهيونية الدينية ويستعير منها ويدير محاصصة وزارية صعبة مع الأحزاب الشرهة، الأكثر تطرفاً من الليكود، سواء كانت صهيونية دينية أشكينازية أو مزراحية كحركة شاس أو ذات صبغة إثنية كالتي تعبر عن «اليهود الروس».
يسمح كل هذا المزيج، الذي يجد عمقه في مجتمع مستوطني الضفة، بإظهار نتنياهو في مقام «وسطي» الوحيد القادر على التواصل بين مختلف فئات شعب إسرائيل الإثنية والطبقية والمناطقية.
منذ نجاحه في إخراج شمعون بيريز من رئاسة الحكومة عام 1996، يفرض نتنياهو نفسه شرطاً للوحدة الوطنية، ويفرض على هذه الوحدة أن تنزاح أكثر فأكثر الى اليمين.
بعد أن طغى نجم آرييل شارون على تكتل ليكود في مطلع الألفية، متصدراً خيار قمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عاد نتنياهو ليتصدر المشهد في مواجهة ما اعتبره التنازل المرفوض من قبل شارون، يوم مضى الأخير في خيار الانسحاب الأحادي من قطاع غزة 2005. دخول شارون اللاحق في فترة من الموت السريري الطويل، ودخول الحزب الذي انشأه «كاديما» في خيبة كبرى، مع الإخفاق في حرب تموز 2006، أعاد نتنياهو إلى الواجهة، وهذه المرة بشكل مطول، وإن يكن على رأس حكومات غير مستقرة البتة، فيما لم تنجح تجربة زرع شخص آخر مكانه، لا مع نفتالي بينيت ولا مع يائير ليبيد. أما اليسار الصهيوني، المؤسس للدولة، فيظهر أنه أقصي تماماً من المشهد، وليس فقط حركة السلام الإسرائيلية.
التباري بات محصوراً بين اليمين المتشدد وبين يمين يحاول تقديم نفسه على أنه أكثر روية. في الوقت نفسه، اجتهد نتنياهو لتقديم الدورين: براغماتي في مقابل الظواهر المصنفة على يمينه، وهو الأقدر على أخذها إلى حيث هو يريد، ومتشدد بإزاء كل من هم على يساره.
يحكى كثيراً اليوم على أن إسرائيل ومهما تمادى شرّها وهمجيتها ضد قطاع غزة الا أن حسابها سيكون عسيراً مع نتنياهو ولو بعد حين، سواء من ناحية ما يتحمله من مسؤولية عما حصل في 7 أكتوبر، أو عن السياق الذي أدى إلى ما حصل، أو عن إدارة الحرب بعد ذلك. يبقى أن كل هذا سيتطاير زبداً لأن إسرائيل محكومة أكثر من أي وقت بالمسار الذي رسمه لها اغتيال رابين، فهذا المسار لن يترك لهذه التركيبة أن تدار إلا بظاهرة مشابهة لنتنياهو. ليس طفيفاً في كل ما نشهده أن يكون هذا العام بدأ بتظاهرات شعبية واسعة ضد فساد نتنياهو وعمله على تطويع القضاء. النتيجة أن هذا العام غارق في الدم وإسرائيل مجتمع «ليكودي» أكثر من أي وقت. يسري ذلك أيضاً على المتأففين من نتنياهو ضمن هذا المجتمع.
علام يضيع الناس وقتهم في التخير بين حل الدولتين أو الدولة الواحدة؟ لا هذا الحل ولا ذاك ممكنان من دون حركة سلام إسرائيلية جديدة، وهذه لا أفق لها اليوم ولا في أمد منظور.
في الأساس تشكلت حركة السلام الإسرائيلية من مزاجين. أحدهما، ينتمي بشكل حاسم للصهيونية، ويرى فيها حركة تحرر وطني، لكنه أخذ يقرّ بأن الفلسطينيين لهم حركة تحرر وطني لهم هم أيضاً. وبالتالي، فالسلام المأمول هو من حركة تحرر وطني إلى حركة تحرر وطني أخرى حصل بينهما «سوء تفاهم» فيما مضى. أما المزاج الثاني، فطعن في سردية أن تكون الصهيونية نفسها هي حركة تحرر وطني، أو على الأقل طعن بأنها قد بقيت كذلك بعد هذا المنعطف التاريخي أو ذاك. مشكلة المزاج الأول أنها قائمة على مقدار كبير من الرياء والخبث. مشكلة المزاج الثاني في أنه يصعب أن تتحول إلى قناعة واسعة بين يهود إسرائيل. المشكلة الثالثة هي أنه، في مقابل صعوبة بلورة خط معسكر السلام مع الفلسطينيين في إسرائيل، هناك سهولة في السلام مع البلدان العربية الأبعد عن مركز الصراع. وهذه حجة اليمين الليكودي: لماذا السلام مع الفلسطينيين في وقت يظهر فيه أن إنجاز السلام مع العرب الأبعدين أجدى وأنفع، بل كفيل بإظهار المواهب الليكودية عند أصدقاء إسرائيل في الإقليم؟
كاتب من لبنان