هذا كتاب جديد للباحثة رضوى زكي منشور في دار نهضة مصر. رضوى زكي باحثة في الحضارة والآثار الإسلامية أحب كتاباتها وبحوثها، ولها مؤلفات سابقة مثل «العناصر المعمارية الفرعونية المستخدمة في آثار القاهرة الإسلامية» و»إرث الحجر.. سيرة الآثار المنقولة في عمارة القاهرة الإسلامية» الذي كتبت عنه هنا منذ أكثر من عام.
الكتاب الجديد عن العمارة المملوكية أثناء وبعد انقضاء حكم المماليك، كيف حددت العمارة المملوكية الباقية هيئة القاهرة التاريخية وطابعها حتى اليوم. الكتاب يجيب على أسئلة لماذا وكيف تم اعتبار العمارة المملوكية طرازا وطنيا مصريا، وآراء النخبة المختلفة تجاه العمارة المملوكية في هيئتها الحديثة. للمماليك تاريخ طويل في مصر. هم الرقيق الأبيض المحاربون استقدمهم الخلفاء العباسيون منذ الخليفة المأمون من بلاد مثل تركستان والقوقاز وغيرها. كان من أول من حكم مصر منهم أحمد بن طولون عام 868 ميلادية. مع الزمن انقسموا إلى فرعين هم المماليك البحرية والمماليك البرجية، معهم شهدت مصر ازدهارا في والفنون وثروة معمارية تركوها وراءهم. لقد تركوا أكثر من مئتي أثر. صور لبعض الآثار مثل مجموعة المنصور قلاوون ومسجد ومدرسة السلطان برقوق ومجموعة السلطان قايتباي في القرافة وغيرها.
كان تطور العمارة المملوكية محليا في الأساس فلم يحملوا معهم جذورهم المتعددة، كانت الواجهات للمباني فى محاذاة الشارع، وإضافة واجهات رخامية للواجهة مأخوذة من العصر الفاطمي، والتجاور المتعامد للقبة المستديرة والمئذنة الرأسية وغير ذلك كثير بالتفصيل من شكل العمارة والصور الرائعة. في المجمل امتازت العمارة المملوكية بأحجامها الضخمة وسيطرتها على الفراغ المعماري المحيط. وتمشي المؤلفة مع العمارة بعد انقضاء حكم المماليك من سليم الأول العثماني إلى محمد علي باشا وبعده مع أولاده وأحفاده. لم تعد مصر دولة مستقلة ولا يحكمها المماليك منذ دخلها العثمانيون عام 1517. بدأت العمارة الإسلامية في التدهور، فقد جمع سليم الأول العثماني الحرفيين والفنانين وأخذهم إلى إسطنبول، ورغم ذلك استمرت وإن بوتيرة أقل فترك العثمانيون خلفهم آثارا مقسمة مساجد وأسبلة وزوايا وقصور ومنازل تذكر أمثلة منها بالاسم والصور كعادتها في الكتاب، لكن رغم ذلك فنسبة العثماني فيها لا تتجاوز الخمسة والعشرين في المئة. ظهرت العثمنة في أشياء كالمئذنة وصور لمآذن مسجد البرديني والكردي والرويعي ومحمد بك أبو الدهب، وكلها اندمج فيها المعمار المملوكي بالعثماني. كان الطابع المملوكي أكثر في جامع محمد بك أبو الدهب كأنما يعلن عن هويته ضد العثمانيين.
انتهى الحكم المملوكي مع دخول العثمانيين، لكن لم يتم اقتلاعه كليا من المجتمع المصري، حتى جاء محمد علي وحدثت القطيعة مع المماليك. جاء محمد علي إلى الحكم عام1805 وقضى على المماليك في مذبحة القلعة عام 1811 وبدأ في بناء آخر يحمل الطابع الرومي أو الأوروبي والعثماني واستعان بمهندسين أوروبيين. الأسماء من المعماريين كثيرة يحفل بها الكتاب. اختلف الأمر في عصر إسماعيل الذي فتح الباب للأثر الأوروبي في البناء، متأثرا بتعلمه ومعيشته في باريس والتربية الفرنسية فبدأت البنايات الأوروبية لإنشاء قاهرة تضاهي باريس، لكن ظلت القاهرتان القديمة والجديدة قائمتين، يأتي الخديوي توفيق على عكس إسماعيل. لقد احتلت بريطانيا مصر في عهده، لكنه أخذ اتجاها معاكسا في مسيرة العمارة المصرية الحديثة تمثل في الاهتمام بالقاهرة التاريخية وآثارها العربية الإسلامية. كان اهتمام إسماعيل أن تقتنع أوروبا بعصريته، وأن يرى الغرب في مصر عاصمة أوروبية الطابع.
كان عباس حلمي متفاخرا بمصريته يعلن أنه ابن لأب مصري وأم مصرية ومنهما ورث الحب العميق لمصر وكان يبغض الإنكليز.
تجددت الدعوة لإنقاذ الآثار الإسلامية في عهد توفيق 1879ـ 1892 وتشكلت لجنة لحفظ الآثار بأمر عال منه عام881 1 فيها أجانب مثل مكس هيرتز بك وفرانس باشا المعماريين الفرنسيين، وفيها مصريون مثل علي مبارك ومحمود باشا الفلكي ويعقوب بك آرتين وعلي بك بهجت وأعضاء شرفيين مثل المؤرخ ستانلي لين بول. كان هدف اللجنة الحفاظ على الآثار في شكلها القائم، وبدأت فكرة إنشاء متحف الفنون الإسلامية ودار الآثار المصرية والفن العربي. بدأ المعمار المملوكي يظهر من جديد وتجلى في بنايات مثل فيلا الكونت سانت موريس، التي بدأ البناء فيها في عهد إسماعيل وتأخر ليتم في عهد توفيق ووضع تصميمها المهندس إمبرواز بودري. كذلك قصر البارون دي جليون الذي أنشأه البارون الفونس دي جليون الفرنسي. تمثلت العناصر الإسلامية في استخدام العقود أعلى المداخل وزخارف أعلى النوافذ بالمقرنصات، واستخدام الخط الكوفي. كذلك مسجد السيدة زينب الذي أعيد بناؤه أكثر من مرة من قبل، فأعاد الخديوي توفيق بناءه على وضعه الحالي عام1884، واستكمل الخديوي عباس حلمي بناءه على الطراز المعماري المملوكي. مع عباس حلمي الذي ورث الحكم بعد وفاة والده توفيق عام 1892 واستمر حتى عزله الإنكليز عام 1914 صار البحث عن الهوية من جديد واستقلال مصر عن الدولة العثمانية. لقد كانت أبرز أعمال لجنة الحفاظ على الآثار العربية في عهده الجهد الكبير في تسجيل وحماية العديد من الآثار منها جامع بن طولون ومدرسة السلطان حسن ومجموعة قلاوون ومدرسة السلطان برقوق وغيرها، فضلا عن افتتاح دار الآثار العربية.
كان عباس حلمي متفاخرا بمصريته يعلن أنه ابن لأب مصري وأم مصرية ومنهما ورث الحب العميق لمصر وكان يبغض الإنكليز. انشأ ضريح والده توفيق على الطراز الملوكي، صحيح تأثر الطراز المملوكي بالعمارة الأوروبية لكن غلب عليه الطابع القديم وكانت المباني ذات الطبيعة الدينية في عهد عباس حلمي هي الأكثر استلهاما للعناصر المملوكية في العمارة كذلك أعمال مثل محطة السكة الحديد في منطقة رمسيس التي في عهد عباس حلمي أعيد بناؤها ودخلت فيها عناصر مملوكية ومغربية وأندلسية، كذلك حدث مع دار الآثار والكتب خانة وقصر جناكليس الذي صار الجامعة المصرية في ما بعد، كذلك مبني وزارة الأوقاف القائم حتى الآن الذي بدأ العمل فيه عام 1898 وانتهى عام1921 ، ومسجد السيدة نفيسة ومسجد الرفاعي، لقد صارت الهوية الوطنية في مواجهة البريطانيين أيضا. استمر الأمر مع الملك فؤاد الأول، وبعد ثورة 1919 صار البناء المملوكي يعبر عن الهوية القومية أو الوطنية، لكن انقسم المثقفون بين الفرعونية والعربية وأيضا كان ذلك في مواجهة الاستعمار بحثا عن هوية وليس بعدا عن الآثار المملوكية. ضريح سعد زغلول مثلا أو تمثال نهضة مصر لمحمود مختار هويتهما فرعونية، لكن كثيرا من المباني أنشئت على الطراز المملوكي، رغم وجود النزعة للبحر المتوسط التي تركها خلفه إسماعيل. جاءت منطقة مصر الجديدة مزدوجة بين الإسلامية والأوروبية. لقد بُدء في إنشائها عام 1906 وفي كل ذلك حديث تفصيلي عن كيف تم ذلك، وما هي ملامحه المعمارية؟ تقريبا إحصاء لكل ما أعاد الهوية الوطنية من مبان وشرحه بالتفصيل. ثم حديث رائع ومهم جدا عن المعارض الدولية التي كانت تشارك فيها مصر ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر تظهر فيها هويتها الوطنية بإنشاء شارع كامل بما يحويه من بنايات كالقصور والأسبلة وأشخاص وعادات وأنشطة شعبية وزفاف. معرض باريس عام 1867 وفيينا عام 1973 ومعرض باريس مرة أخرى عامي 1878 و1989 ومعرض شيكاغو عام 1893 ، كيف أخذت المعارض الزوار بالملايين في مساحة كبيرة وشارع يسمى أحيانا «طريق القاهرة» وبالطبع صور رائعة للمعارض وما فيها. فصل عن تأثر أوروبا ذاتها بالتراث المملوكي في بلاد مثل البوسنة وسراييفو، التي حافظوا على مبانيها في مواجهة العثمانيين ومن بعدهم أمام من احتلهم من أوروبا.. صور ومعلومات نادرة بذلت فيها الباحثة رضوى زكي كالعادة جهدا رائعا. طبعا يتوقف كل ذلك مع الستينيات من القرن الماضي ولا يدخل إليه الكتاب ولا الكاتبة وحسنا فعلت، فتكفي آلام المسخ في العمارة حولنا. الكتاب عن تطور العمارة حقا، لكنه عن رحلة البحث عن هوية مصرية تمتزج بالسياسة والفكر في كل قضاياه.
روائي مصري