قبرٌ للإيجار

ليس كل السرد العجيب خياليا، ولا قادما من بعيد، فبعض من سرديات عصرنا موغلة في العجيب، متدثرة بدُثُر الغريب أكثر من حكايا جدتي عن رأس الغول، وعلي بن السلطان. في كل سرد حكايا للموت ليست كلها مؤسفة، بل قد يكون موت الأشرار حلا لعقد لا ترحل إلا بالموت.
حكايتنا التي سنبني عليها رأينا اللساني لهذا اليوم، حدثت في بلد يقع في الغرب الجاذب، وليس مهما في السرد أن تسمي الحكايات بلدانها. كان يا ما كان في قريب الأزمان امرأة مسنة استشعرت النهاية، فحجزت مثلما تقتضي الأعراف في عصرها ومصرها قبرا، وكانت متفائلة فدفعت أجرا مقدما لعقد من الزمن الكبيس ونصف. سيكون القبر على ذمتها في بلاد تعز فيها القبور، أو يبحث فيها عن مجاورة ميت عزيز. مضى العقد الأول والمرأة على قيد الحياة، فتفاءلت خيرا عساها تموت في السنوات الخمس المقبلات. ربما قالت في نفسها إنها ستكون سعيدة الطالع لو ماتت في آخر أسبوع من سنة الميعاد. لكن السنوات الخمس الباقيات مضت ولم تمت. فأبلغت الشركة المتعاقدة، المرأة التي حجزت قبرها، أنها مضطرة إلى استعادة القبر وإعادة توزيعه على منتظرين جدد. حز الأمر في نفس المرأة، التي لم تسعفها الحياة بالقبر، وبكت بكاء مراً عقدا انحلّ لأسباب خارجة عن نطاقها: لم يحن أجلها وفات أجل العقد. بكت نفسها وهي التي نجت من الموت كيف أنها لم تمت كي تكتمل بنود العقد، وكيف أن أموالا طائلة ذهبت سدى، وربما بكت لأنها أرادت أن تجاور في الممات من كانت الروح في الحياة تحن إليه، وأن ذلك الجوار وباعتبار تبدد الإيجار سيذهب إلى غريب، وأنها مضطرة هي أيضا أن تبحث عن غريب بعيد كي تجاوره عند الممات.
ونحن نحكي تفرخ اللغة في عش جديد يتداخل فيه الموت بالحياة، وطول العمر بالحسرة وانتظار الموت بالسعادة. يبحث الكلام وهو يشتغل في محيط سياقي جديد عن عش وطريقة حضن جديدة لبيض يراد له أن يفقس كي يطير بعيدا عن العش الطبيعي الذي باض فيه و فَقَسَ.
إطار الحكاية العرفاني ليس الموت مثلما قد يعتقد من تابع تفاصيل الحكاية العجيبة، بل إطارها العرفاني هو الإيجار. في علم الدلالة العرفاني تعني الأطر الدلالية التي تنسب إلى شار ج. فيلمور Charles J.Fillmore أن المعاني في اللغة ترتبط بمعارف موسوعية، يكتسبها المرء بالتجربة عندما يتواصل داخل جماعة لغوية ثقافية. الفكرة الأساسية في نظرية الأطر هي أنه لا يمكن للمرء أن يفهم معنى عبارة لغوية بسيطة أو مركبة كحكايتنا، إلا باستحضار المعارف الأساسية التي تتعلق بتلك العبارة أو النص. لا يمكن أن نفهم الحكاية السابقة، إلا إذا كنا قادرين على استيعاب أن القبور، ولسبب ثقافي ما، يمكن أن تستأجر في بعض أصقاع الدنيا سلفا؛ وربما كان من الممكن ذلك في ثقافة يمكن أن يختار المرء فيها أن يجاور قبره قبر من يحب. كان جميل بثينة قد ذكر شيئا من هذا في شعر له يقول فيه:
(أعوذ بك اللهُم أن تَشْحَطَ النوَى / بِبَثْنَةَ في أدْنَى حَياتي ولا حَشْرِي
وجَاوِرْ، إذا مت بيني وبينها / فيا حبذا موتي إذَا جاورتْ قبري)
الإطار الذي يطرح فيه التجاور ههنا هو إطار خيالي، ولذلك ينبغي أن يستحضر في سياق البيتين السابقين معنى الممكن المتدرج من المتعذر، فإلى المُحال ثم إلى العجيب لأن مجاورة قبر امرأة لرجل يمكن أن يكون في سياق ثقافي شرعي، تنعكس فيه شرعية الزواج أو الأبوة مثلا على شرعية الإقبار؛ لكن أن يجاور بين قبريْ عاشقين فلا يكون ذلك إلا في إطار ثقافي مخصوص، يقبل في السياق الشعري ولا يقبل في السياق الواقعي. بيد أن المجاورة في الحشر تبدو أمراً محالاً، بل عجيبا لكنها تصبح ممكنة بفعل عمل الدعاء اللغوي، لأنه ما من عجيب إلا وهو يقبل الإمكان بفعل الإرادة الإلهية التي لها وسيلة لغوية وإطار لغوي هو الدعاء، فالدعاء بما هو إطار لغوي يمكن أن يجعلنا قادرين على فهم المجاورة والدنو البديلة من الشحط والنوى، لكن تبقى المعارف الموسوعية المركزة على الطبيعة التجريبية المعيشة، هي المتحكم في جعل الأمنية هذه مستحيلة، حتى إن ركبت صهوة الدعاء العقدية. فالدعاء لا يمكن أن يكون إطارا ثقافيا ناجعا وفعالا إلا إذا تصالح مع النواميس والأعراف التي تأبى على جميل هذا الإمكان وتجعله محالا.

في مقبرة الأحياء ينام السكان كالموتى، وفي مدينة الأموات يبحث الناس عن الجار قبل الدار، أو قل هم يحبذون لو أنهم يجاورون من يحبون. مجاورة الحبيب في العاطفة الإنسانية هي أمنية تظل تخامر من يعيش كالغريب بين أقارب أبعدتهم الأيام، وأباعد قربتهم الصدفة.

وبالرجوع إلى حكايتنا فإن من تعود على ثقافة لا تستأجر فيها القبور، لا يمكن أن يحمل هذه الحكاية محمل الجد، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بمقبرة أسرية على ذمة عائلة معينة، أو إذا كانت الثقافة لا تحتفي بالقبور ولا بمواقعها، ولا بهويات أصحابها فعندئذ ستفهم الحكاية استعاريا، أي سيحمل من سردها محمل من أراد أن يسقط تجربة التحيز على قبر على تجربة كراء المنازل وعسرها في المدينة، وأن «قبر الحياة» (وهو اسم شائع للمنزل على الأقل عندنا في تونس) كانت استعارة موفقة، تعكس هذا التعامل بين المدن الآهلة بالأحياء والمقابر، بما هي مدينة الأموات.
في مقبرة الأحياء ينام السكان كالموتى، وفي مدينة الأموات يبحث الناس عن الجار قبل الدار، أو قل هم يحبذون لو أنهم يجاورون من يحبون. مجاورة الحبيب في العاطفة الإنسانية هي أمنية تظل تخامر من يعيش كالغريب بين أقارب أبعدتهم الأيام، وأباعد قربتهم الصدفة. ومن جهة أخرى، لن يكون المرء قادرا على فهم معنى الإيجار، دون معرفة أي شيء عن حالة مخصوصة من التملك الوقتي للفضاء، وفيها نجد أطرافا أخرى منها المؤجر والعقد والمال والزمن المحدد للانتفاع بالملكية. ولن يكون أيضا قادرا على فهم معنى الإقبار، بما هو طريقة ثقافية في دفن الميت إلا إذا عرف قارئ الحكاية معطيات تتعلق بالمقبرة والموت، واحتفاء الأحياء بوضع علامات على القبر، إن سمحت بذلك الثقافة التي ينتمي إليها الميت. وهكذا، فإن الإيجار من ناحية والإقبار من ناحية أخرى ينشط كل منهما أو يستحضر الإطار الدلالي للمعنى الموسوعي المتعلق بالمفهومين المحددين المذكورين. وهذا التنشيط أو الاستحضار المتبادل لا يبرز مفاهيم العبارتين الأساسيتين (إيجار/ إقبار) وحسب، بل يحدد أيضا منظورا معينا يُنظر فيه إلى الإطار. فعلى سبيل المثال فإن «قبر» مدخل إلى الموقف من منظور الإطار الذي يدفن فيه و»ميت» من منظور من سيحل في ذلك الإطار، وفي المقابل فإن «المستأجر» ينظر إلى عملية التعاقد على الاستفادة من الإطار من جهة المستفيد، بينما ينظر إلى «مدة» في هذا السياق من جهتي ابتداء فعالية العقد وانتهائه. وما حدث في هذه الحكاية فإن معاني كل هذه العبارات قد عششت في غير عُشها الأصلي، وأهم ما أكسبه هذا الامتزاج والانعكاس بين المعاني، هو معنيان متدافعان هما الحزن المر، والنادرة اللافتة أو لنقل هو مزيج بين المأساة والملهاة. فالموت يصبح شيئا منتظرا وجزءا من مدة العقد، ويصبح الميت مقيما وقتيا في الدنيا، ومستأجرا قبرين، واحدا للحياة والثاني للموت؛ ويصبح عقد الإيجار في صراع من جهة الزمن مع العمر، فالأول يقتضي مدة معلومة معروفة، والثاني يقتضي مدة معلومة غير معروفة. لكن أكبر سواد في هذه الملهاة المرة، أن الحياة بنواميسها يمكن أن تصبغ انتظارك للموت بمياسم العقود العصرية: تنتظرها وترحب بها لا لأنها مؤقتة في كتاب بالمعنى القدري القرآني، بل لأنها مؤقتة في كتاب بالمعنى التعاملي التجاري.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سيف كرار... السودان:

    مثلا.. عندما يذهب شخص الي الحج.. يتمني أن يموت ويدفن بجوار الرسول أو في البقيع.. لكن هنالك اضرحه لشيوخ في قرأنا السودانيه تحجز الأراضي بجوار الضريح لأهل وأقارب صحاب الضريح للدفن وهكذا الأعراف والتقاليد…

إشترك في قائمتنا البريدية