بالأمس شعرت بأنني لم أعد أمتلك عيونا لترى.
رُميت في تلك الحفرة في حي التضامن، وصرت حفنة من رماد.
اقتادوني مغمض العينين، بيدين مكبلتين. مشيت كما أمروني، قالوا أسرع فركضت، لم أرَ شيئاً أمامي. فقدت صوتي، وامحت عيناي، ودخلت في اللهب الذي مزجني بدخان دواليب المطاط التي كانت في أسفل الحفرة.
لا أريد ضريحاً، فقبري من دخان.
لا أريد شيئاً، ولا أستجدي التعاطف من أحد.
أنا الأعمى وسط العميان، والقتيل وسط القتلى، أنا مجرد دخان أسود يتصاعد من حفرة.
هكذا كنت وهكذا سأكون، ولا أريد شيئا، ولا أبحث عن شيء.
***
هذا الكلام قاله الدخان، وأنا الآن أخون الدخان. أخون نفسي لأنني رأيت وقرأت. أخون الحياة لأنني لا أزال قادراً على التنفس. أخون الموتى بدلاً من أن أموت معهم.
اذا قلت لكم بأنني لم أستطع النوم، أكون كمن يضحك على حاله، اذا لم أنم بالأمس فسأنام اليوم أو غداً أو بعد غد.
أنا لا اسخر منكم بل أسخر من نفسي، واسخر من قدرتي على النسيان. سأنسى مذبحة التضامن مثلما نسيت صبرا وشاتيلا ومثلما نسيت دير ياسين والبياضة وتل الزعتر والدامور.
الذكريات تتراكم فوق الدم كي تمحو الدم قبل أن تمحو نفسها، وتصير مجرد لحظات عابرة نستعيدها كي نغطي النسيان بالإدعاء بأننا لم ننسَ.
الذكريات تتراكم فوق الدم كي تمحو الدم قبل أن تمحو نفسها، وتصير مجرد لحظات عابرة نستعيدها كي نغطي النسيان بالإدعاء بأننا لم ننسَ.
الهول السوري الذي نشر موقع “الجمهورية” تفاصيله، ونشرت “الغارديان” البريطانية مقاطع من فيديو مذبحة الدخان التي جرت في حي التضامن في دمشق، هو علامتنا في زمن النكبات.
لا مكان للكلام، كل وصف للمذبحة عاجز عن التعبير، كل الكلمات ابتذلت، كيف نصف قبورا من دخان؟
المذابح قتلت اللغة، والنسيان قتل الذاكرة.
كمن يصرخ في منام فلا يستمع إليه أحد، هكذا نصرخ اليوم، بلا أصوات أو حناجر.
سؤالي وأنا أقرأ وأشاهد كان موجهاً إلى نفسي. كيف أستطيع أن أعيش في هذه الحفرة التي يطلقون عليها إسم بلادي؟ كيف أستطيع أن أمشي في شوارع مكتظة بالموتى؟ كيف أجرؤ على الكلام في حضرة الصمت؟
لا أدري كيف استطعت أن أنظر في وجه القاتل، وكيف استطعت أن أحتمل مشهد يده التي تحمل البندقية التي أطلقت النار على الضحايا.
لكنني نظرت ورأيت. فضول الجريمة موازٍ للجريمة في وحشيته.
هل تحولنا إلى وحوش؟
وحوش أبرياء، يتفرجون على وحوش يهندسون الجريمة، هل هذا هو المصير الذي ارتضيناه لأنفسنا، ونحن نتلقى صفعات ذاكرة تستيقظ ثم تنام، ومهمتها الوحيدة هي أن تذكرنا بأننا لسنا أبرياء.
الناجون من مقبرة الدخان، أي نحن، ليسوا أبرياء لأن الشاهد يصير شريكا، حتى حين يحزن أو يتبرأ أو يشجب
الناجون من مقبرة الدخان، أي نحن، ليسوا أبرياء لأن الشاهد يصير شريكا، حتى حين يحزن أو يتبرأ أو يشجب.
ماذا نفعل بهذه العتمة التي استوطنت أرواحنا؟
كيف نستطيع البقاء؟
كلمة بقاء، اي مجرد الاستمرار أحياء صارت مفتاح أيامنا.
كيف نبقى ونحافظ على عقولنا وتوازننا الروحي وسط هذا الموج العالي من الشجن واليأس والشعور باللاجدوى؟
نبقى لأننا ننسى، لكن الجريمة لا تمحي لأنها هنا والآن.
نعيش مع الجريمة أي نتطبع بأخلاق لا أخلاق لها، ونبرر ما لا يمكن تبريره، ونستعيد حكمة ان الحي أفضل من الميت.
إنه الهراء.
نهترئ في الهراء، ولا خيار أمامنا.
نريد أن نبقى لأنه لا يحق لنا أن نموت، فالموت صار مبتذلاً إلى درجة مقززة.
إذ لم يكتف الطغاة واللصوص بابتذال الحياة بل ابتذلوا الموت أيضا.
ولكن كيف نبقى؟
هل نبقى جثثا تسعى في بلاد الخراب؟ أم نستعيد أصواتنا؟
لا تقولوا ان الصوت تلاشى في الصدى. فهذه الأصداء التي تطن في أرواحنا هي أصوات الضحايا.
تعالوا نستعيد صمت الضحايا كي نكتشف أصواتنا.
تعالوا نقرأ الإشارات الآتية من دخان الموت الذي يتسرب من المقابر الجماعية الموجودة في كل مكان.
روى الدخان أن الجريمة ليست فردية أو نتيجة نزوة أو بحثاً عن ثأر مثلما ادعى السفاح أمجد يوسف، كما أنها ليست مجرد متعة مَرَضية كما أشارت الى ذلك صورة نجيب الحلبي.
الجريمة نظام وبنية.
نعم نحن نعيش في نظام الجريمة، وهو نظام يشبه الفوضى لكنه منضبط على ايقاع امتهان الناس بشكل متواصل.
إنه بنية متكاملة، فهو ليس احتلالاً خارجياً يمتلك مشروعا واضح المعالم، ينفذ أهدافه بعقلانية مفرطة في وحشيتها، ويقتل لأهداف محددة.
لكنه احتلال من نوع آخر يمكن مقارنته بسلوك العصابات والمافيات التي لا هدف لها سوى النهب والقتل والانتقام.
نظام الجريمة تحكمه فكرة واحدة هي الانتقام من الناس عبر موت ذليل.
هذه هي خلاصة صور قيصر التي تستعاد اليوم مع صور مذبحة التضامن.
القتلة ليسوا أفراداً تحولوا إلى وحوش بشرية أو مرضى نفسيين، انهم جزء من آلة ضخمة، انها مطحنة للموت لا تتوقف عن الدوران.
ذكّرتنا مقبرة الدخان في حي التضامن بأننا نعيش في صفر الخراب، وعلينا أن نقاوم بأيدينا فإن لم نستطع فباصواتنا فإن لم نستطع فبموتنا
هذه الآلة التي وصلت إلى ذروة تجلياتها في المقتلة السورية المستمرة، تتحكم اليوم بالمشرق العربي برمته، من ساحل البحر الأبيض إلى شواطئ البحر الأحمر، محولة بلادنا إلى مقبرة كبرى للبشر والكلمات.
مقبرة بلا شواهد، ودخان يبتلع الكلام، وصمت.
لقد ذكّرتنا مقبرة الدخان في حي التضامن بأننا نعيش في صفر الخراب، وعلينا أن نقاوم بأيدينا فإن لم نستطع فباصواتنا فإن لم نستطع فبموتنا.
لنحاول أن نبقى مالكين عقولنا والا فإنّ الجنون قد يسكننا ويذهب حتى بالصمت ! نعم، اخي الياس ، الصمت أمام مجزرة حي التضامن نوع من الموت. ولكن، ما العمل فقد حرنا حقا ، لا بل تجمدنا وشُلّت الحركة فينا لمدة طويلة وما زلنا هكذا أمام هول الجريمة وضخامة بشاعتها. هل يكفي لوصف هذه المذبحة الرهيبة التي قد لا يجرأ حتى ابليس على ارتكابها – حياءً من الضحايا وعويل ثكالاهم ودموع صغارهم وأحزان الحي المدكدك المدغدغ الفارغ المهجور – بأنها فعلا منكر تجاوز الخيوط الحمراء ويجب مقاومته بأضعف الايمان اي في قلوبنا فقط؟ ما الذي يمكن فعله عمليا والجريمة تتكرر ، وفي كل مرة تأخذ وجوهًا جديدة من الشناعة والقبح، وتتفنّن في إخراجٍ اضافي من الهمجية والقتل ؟
مرتكبو الجريمة التي يستحيي إبليس من ارتكابها يتحركون في إطار نظام وداخل بنية.. ولكني لمّا حققت النظر في وجوههم وجدت انهم يشبهون أصحابنا ورفاقنا وايّ واحد من البشر العاديين، ويشبهونها نحن. فلم أفهم ! وقلت : أهولاء هم القتلة الفجرة أصحاب الفعلة النكراء ؟
كنت أعتقد أنّ من يرتكب جرائم في حق الانسانية لا يشبه في وجهه وعيونه وشكله الناس العاديين ، فاذا بي اُصاب بصدمة : انهم مثلنا تماما ونحن مثلهم والضحايا مثلنا. وإذن، هل النظام مثلنا والبنية أيضًا مثلنا؟ أم أنهم من فصيلة آدمية أخرى لا تتقاسم معنا الا الشكل، أما الروح والقلب والدم فلا ؟
لا يمكن تفسير ما يحصل الا بحلول لعنةٍ ما على الارض والبشرية بسبب كثرة الظلم وتفرج مجتمع الاستهلاك- ومتابعة الافلام ومشاهدة الصور – على الجرائم والضحايا.. وصمت وتواطىء القوى العظمى في العالم والمستفيدين من انتهاج القمع والتنكيل والقتل والحرق، وزرع الفوضى والعنف كسياسة خلاقة لِنُظُم وبنيات جديدة براغماتية بالمعنى الاستغلالي والطاغوتي للكلمة!
ولم يبق الا أن نبكي على أنفسنا فقد سقطنا في متاهة الضياع بعد أن فرطنا في انسانيتنا وبعناها بثمن بخس في سبيل ثقافة الفرجة والاستهلاك ! فلنتفرّج على انفسنا نبكي ! وكم هو مؤلم وحزين هذا المشهد عندما يكون الانسان في غفلة منه يلطم نفسه ويبصق عليها ويهينها ماشيا على جثتها، ويجرها أو يدفعها إلى حفرة بلا قرار ليرميها هناك بعد إفراغ الرصاص فيها !
“قابيل ماذا فعلتَ بأخيك ؟” ، ها هو سؤال البداية، سؤال ارتكاب الجريمة الاخوية الاولى على وجه الارض يتكرر، وكلنا مسؤولون ، فمن يجيب؟
شفيت غليلي.
لم اسمع كلاما مثل هذا الكلام يقشعر الابدان لماذا صامتين
تحياتي لك ايها الكاتب النبيل ولك الشكر عن التعبير عن الالم الذي لم ولن يمح بسهولة من وجداننا.
للاسف من ارتكب هكذا جريمة يصنف على انه حامي الديار.؟؟؟
والشيء الواضح للعيان بانهم مدنيون ولم يكونوا مسلحين. النظام للاسف لا يستطيع ان يغطي الشمس بالغربال…ان كان نفد من العدالة الارضية كيف سينفد من عدالة السماء
تحياتي لك ايها الكاتب النبيل ولك الشكر عن التعبير عن الالم الذي لم ولن يمح بسهولة من وجداننا.
للاسف من ارتكب هكذا جريمة يصنف على انه حامي الديار.؟؟؟
والشيء الواضح للعيان بانهم مدنيون ولم يكونوا مسلحين. النظام للاسف لا يستطيع ان يغطي الشمس بالغربال…ان كان نفد من العدالة الارضية كيف سينفد من عدالة السماء
لعنة الله علي هؤلاء القتله المجرمين و مسؤليهم لحتي قيام الساعه. عار علي هؤلاء القتله و امهاتهم لانهن و لدوا و ربوا قتله سفاحين لا انسانيه و لا ضمير و لا اخلاق . اي دين او مله تسمح بهذا العمل الاجرامي البربري؟ يجب فتح تحقيق اممي و تقديم القتله و مسؤليهم للعدالة . الله يتقبل الشهداء برحمته و يصبر ذويهم.
اي اممي هذا ؟؟ الأمم تنظر للمجازر نظر المجرمين
أملنا بالله قريب
شكرًا أخي الياس خوري. مازلت أذكر كلمات ناجي العلي رحمه الله عن مشاهداته أو شهادته عن الإجتياح الإسرائيلي لبيروت. رجل أصابه الجنون من هول مارأى حوله من الدمار والوحشية الإسرلئيلية. واليوم نتحدث عن جرائم وحشية مشابهه يقوم بها نظام المقاومة والممانعة السوري ونتذكر صبرا وشاتيلا والقبير والبيضة ودير ياسين والحولة وتل الرعتر وحماه وحمص وحلب … لكن هل نستطيع الموت!
شخصياً لا أعلم كيف تمالكت نفسي حين شاهدت الفيديو وبقي حدسي متوتراً أيام ،لدرجة أنني وضعت نفسي في مكان أحد الضحايا ،حاولت تغطية الحدث ،تلعثمت،فشلت،وخجلت من نفسي كثيراً ،وكما تفضلت ننظر إلى هكذا حدث لم يحصل في تاريخ البشرية منذ قابيل و هابيل ،وكأننا شركاء في الجريمة ،لانقوى على فعل شيء ذو الندب والنحيب…. لقد فجعت الآن مرتان الفاجعة الأولى حي التضامن ، والفاجعة الثانية مقبرة الدخان التي جاءت كالصواعق من خلال مقالتك هذه التي هزتني بقوة من الأعماق ،فإزداد خجلي خجلا ،وأنتظرت فرصة إنتهاء الدخان لأخرج من تلك الحفر التي يدفعنا إليها أنظمة الإبادة العربية .الكلام لاينتهي ولابد معا جميعاً العمل على سد مثل تلك الحفرات بدفن الطغاة العرب وشبيحتهم أمثال تلك الأوغاد.
بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين…لا حول ولا قوة الا بالله.. انا لله وانا اليه راجعون.. وحسبنا الله ونعم الوكيل