الصلات كثيرة بين الهمجية الإسرائيلية الراهنة ضدّ الفلسطينيين من سكان قطاع غزّة، وبين الاصطفاف الأمريكي الأعمى خلف دولة الاحتلال، حتى حين يستدعي الانحيازُ تجميل مظاهر قصوى من الفاشية الإسرائيلية. ولأنه يشمل الساسة في البيت الأبيض والكونغرس، مثل غالبية ساحقة من المعلّقين والصحافيين في وسائل الإعلام المختلفة؛ فإنّ للتحيّز ذاك سلسلة أنساق تتنوّع من حيث الأشكال والطرائق والتقنيات، كما تتقارب كثيراً من حيث المضامين والسرديات، ويحدث أنها تتوافق (وعلى نحو مدهش حقاً) من حيث استعادة هذا أو ذاك من سياقات ارتباط الماضي بالحاضر.
ففي سنة 1995 أصدر الصحافي الأمريكي غلين فرانكل كتابه «ما بعد الأرض الموعودة: اليهود والعرب على الطريق الوعرة صوب إسرائيل الجديدة»، الذي أثار نقاشات مشهودة، وحصد العديد من الجوائز (بينها بوليتزر الشهيرة). فالمؤلف شغل منصب مدير مكتب صحيفة «واشنطن بوست» في القدس خلال طور عاصف من تاريخ دولة الاحتلال، وهو الذي تسبب بالكثير من الحرج بين الصحيفة المنحازة والدولة المتمتعة بالانحياز، في نيسان (أبريل) 1988 حين سحبت السلطات الإسرائيلية بطاقته الصحفية عقاباً على اتهامه الجيش الإسرائيلي باغتيال خليل الوزير (أبو جهاد).
يُستعاد هذا الكتاب كلما بلغت الهمجية الإسرائيلية أوجاً، قديماً أو متجدداً، في قطاع غزّة وسائر الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ ويُعاد التشديد على معظم الأطروحات التي ناقشها فرانكل، وحذّر منها آنذاك، حين تناول ما سُمّي بـ«عملية» السلام العربي – الإسرائيلي من زاوية خاصة: الشخصية اليهودية، ومدى ما أتيح ويُتاح لها من فرص وأوضاع كي تتصالح مع التاريخ الذي سيّج ويسيّج تلك السيرورة، وألقى ويلقي بظلاله الكثيفة عليها.
ورسالة الكتاب كانت بسيطة بقدر ما هي ضاغطة في استحقاقاتها السياسية والسوسيولوجية والسيكولوجية، لأنها تناولت ثقافة الحصار التي ظلّت تغذّي الشخصية اليهودية داخل (وإلى حدّ ما، خارج) دولة الاحتلال. وباتت تطرح على جدول أعمال الحياة اليومية مسائلَ أخرى تفرّق بعد أن كانت توحّد، وتسبب الانشقاق والشرخ بعد أن كانت تسبب التراصّ والتلاحم؛ وللمرء أن يستطرد من دون مجازفة: حتى بعد، وربما في ظلّ، عواقب «طوفان الأقصى».
الهروب من جداول الحياة اليومية لمواطني أيّة أمّة سليمة الوجدان، ثمّ صحيحة الجسد والروح قبلئذ، هو علامة على أنّ تلك الأمّة ناقصة موضوعياً، أو منتقصة في ذاتها وبذاتها، يساجل فرانكل؛ وبالتالي فإنّ ما يغذّي شخصيتها الوطنية ليست العناصر التي تصون وجودها وتحصّن مستقبلها، دينية كانت أم قومية أم عسكرية، بل تلك التي تفعل العكس تماماً: تنخر البنيان، وتقوّض الدعائم، وتفضي إلى الهاوية.
فكيف إذا كان التوصيف الغربي لهذه الدولة أنها «واحة الديمقراطية» في بيداء الشرق الأوسط، التي قتلت حتى الآن أكثر من 10 آلاف فلسطيني مدني، وقصفت المشافي والمخابز والمدارس وملاجئ الأونروا، وقطعت الماء والكهرباء والوقود والاتصالات؟ وكيف إذا كان السلوك ذاته بربرية في توصيف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إذا مارسته روسيا في أوكرانيا، ولكنه حقّ دفاع عن النفس إذا مارست دولة الاحتلال ما هو أبشع منه وأعنف؟ ثمّ، أخيراً وليس البتة آخراً: كيف إذا تمسك الإسرائيليون بحصر هذه الأرض، التي كانت وتظلّ تُسمى فلسطين، تحت توصيف توراتي قاصر وحسير مثل «أرض الميعاد»؟
لا يخفى، إلى هذا وذاك، أنّ أفضل الأسئلة التي تُطرح اليوم عند أخلص «العقلاء» القلّة من أصدقاء الاحتلال هي التالية، على سبيل الأمثلة فقط: ما الذي يتبقى من هذا «الفردوس» الموعود، الذي لم يعد يغادر تحوّلات كيان استعماري، عسكرتاري، استيطاني، عنصري، إرهابي، أبارتيدي؟ أين يخمد أو يتواصل الاحتقان بين مفهومه عند أمثال تيودور هرتزل، دافيد بن غوريون، مناحيم بيغن، إسحق رابين، أرييل شارون، بنيامين نتنياهو؛ مقابل أمثال مارتن بوبر، يشعياهو ليبوفيتش، إيلان بابيه، آفي شلايم؟
أو، باختصار بليغ: ما الذي قبل الميعاد، قياساً على ما فيه راهناً، وما بعده؟