القاهرة ــ «القدس العربي»: في ظل أنظمة حُكم شمولية لا تعترف إلا بصوتها الأوحد، لابد أن تتوحد بدورها نغمة هذا الصوت، وأن يتم تطويع كل الوسائل لتصبح أبواقاً تكرر ما يُملى عليها، وأن تقوم ـ بخلاف دورها المرجو ـ بغسل أدمغة المواطنين، وجعلهم أكثر قابلية ليصطفوا في مسيرة القطيع. هنا تبتعد الصحافة عن دورها، ككاشفة للحقائق، ومحرضة على رفض أي شكل من أشكال الظلم والاستبداد، وألا يصبح هدفها الأوحد هو خدمة المواطن، بل فقط خدمة السلطة التي تتلون الصحافة وجموع الصحافيين، حسب هوى السلطة وأهدافها، إلا مَن رحمه ربه. ويحاول الكاتب الصحافي والروائي سعد القرش في مؤلفه الصادر حديثاً، والمعنون بـ»قبل تشييع الجنازة.. في وداع مهنة الصحافة» الكشف عن فساد الصحف المصرية، وبالتبعية فساد الصحافيين، الذين تنازلوا عن دورهم، وأصبحوا عبيداً للسلطة والنظام الحاكم، أياً كان شكل وطبيعة هذا النظام. فقد جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني لتكشف الكثير من زيف هؤلاء، الذين دوماً ما تصدروا المشهد، وكانوا أفضل أداة في يد السلطة لخداع الناس وحشدهم مع أهدافها، فهم خدم كل نظام، فمن كان مع مبارك وقت الثورة أصبح ضده بعد خلعه، ثم عاد سيرته وهلل للنظام الحالي، بل يتبارى مخلصو النظام في استعداء الجميع ضد ثورة يناير، وأنها سبب كل الموبقات. يستعرض القرش موقف الكثير من هؤلاء. ونشير إلى أن موقف الصحف ورؤساء تحريرها هو نفسه موقف الكثير من الأدباء والكتّاب، الذين طالما أصمّوا آذاننا بكتابة روايات ومقالات وحوارات، عن الحرية والعدالة والانحياز إلى البسطاء وجموع الناس، لكنهم أول المهرولين لمصافحة وتهنئة هذا الحاكم أو ذاك، بل التغني بحكمته وعدالة نظامه، مع ملاحظة أن الأمر لا يقتصر على المصريين، بل سمة عامة في كل مكان يعيش ناسه تحت وطأة نظام عربي حاكم.
لقد تشابهت علينا الصحف
يؤكد الكاتب بداية أن مهنة الصحافة لم تأت إلا لخدمة القارئ، وعلى الصحافي أن يبتني جسوراً من الثقة بينه وبين القارئ، بأن يكون مُعبّراً عن آماله، ومدركاً لمشكلاته، وأن يكون في الأول والأخير لا يبتغي إلا وجه الحقيقة ـ رغم نسبيتها ـ وأن يبتعد عن أي شبهة تجعله بوقاً مأجوراً لأي سلطة أو نظام سياسي، إلا أن الأمر دوماً ما يأتي على خلاف ذلك. فالصحف المصرية تصدر حاملة العناوين نفسها تقريباً، وما موضوعاتها إلا متابعة مسيرة الرئيس ــ أياً كان ــ تتصدرها كلماته الحكيمة طبعا، التي يقولها في أي من المناسبات، سواء في منتدى أو عند افتتاح مشروع وطني ـ حسب قول الصحف ـ فلا فكر ولا انتقاد لأي شيء تقوم به السلطة، وبهذا أصبح اختيار رؤساء التحرير وفق قدرتهم على سرد الإنجازات الوهمية للسلطة، بل تكرارها لتتأكد في وعي القارئ، ويصدقها كحقيقة أكثر يقيناً من حقيققة وجوده، الذي يعيش ويموت وهو لم يزل حائراً في فك لغز جدوى وجوده هذا.
واقعة الوقائع
ويذكر القرش موقفاً للإمام محمد عبده، عندما تولى تحرير جريدة «الوقائع المصرية»، التي كانت سجلاً للأوامر الحكومية. فوضع لها لائحة جديدة، بأن «يكون للجريدة حق الانتقاد على أي عمل من الأعمال، عندما ترى له وجها، بما في ذلك وزارة الداخلية نفسها، التي كانت الجريدة جزءاً منها». كذلك استعان محمد عبده بسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي للنهوض بالجريدة، التي كانت توزع بالإكراه على بعض الفئات، في ما يشبه العقوبة الحكومية، لتصبح بعدها لعموم الناس، يطلبونها بإرادتهم، لأنها أصبحت تعبّر عنهم وعن همومهم، بدون أن تصبح فقط جريدة للقرارات والأوامر الحكومية. ليدور تساؤل المؤلف عن ماهية الصحف «هل تتوجه إلى الناس بأوامر الحاكم، وتتفنن في تسويق سياساته، وتسويغ قراراته مهما تكن متعسفة، والمبالغة في الإشادة بحكمته إن وجدت، كما تحجب عنه الحقائق بما فيها نذر الثورة؟ أم تكون صوتاً للجماهير ينقل أشواقها ومتاعبها إلى صانع القرار؟».
الجيل الجديد
وبما أن هذه الصحف لم تلتزم المهنية والضمير الصحافي، فقد ابتعد عنها المواطن بدوره. بخلاف قرّاء العادة من كبار السن. هذه المطبوعات لم تزل تسير في دروب الصحافة القديمة، غير واعية بما يحدث حولها من تقدم تكنولوجي وفضاءات جديدة، تتسع لجميع الآراء. فلا أحد من الجيل الجديد ــ جيل ثورة يناير ــ يثق في جريدة حتى ولو كانت «الإهرام» ذاتها ــ أعرق الصحف المصرية والعربية ــ التي أصبحت لا ترقى لجريدة حائط، يقوم عليها بعض الهواة. موقف هذه الصحف من الثورة والثوار، وبالتالي النظام الحاكم الذي قضى عليها، جعلها تخرج تماماً عن مدار تفكيره، وهو يدرك يقيناً أنها مجرد أبواق دعائية ليس أكثر. فصفحات الرأي التي كانت موجودة من قبل في معظم الصحف أصبحت شبه منعدمة الآن، قاصرة على التسبيح بحمد الإنجازات، وكذلك بريد القرّاء ـ رغم الرقابة الصارمة ـ أصبح في خبر كان، كلها رسائل تأييد وتهليل. فكانت السوشيال ميديا هي المجال الأنسب للتعبير والكتابة، بفكر متحرر ومناقشة موضوعات لا تستطيع كل الصحف مجتمعة مجرد الاقتراب منها، أو حتى الإشارة إليها. الأمر نفسه في الفضائيات وبرامجها، التي أصبحت تتشابه والصحف في سرد الأكاذيب وتلفيق الحكايات وتصفية خصوم النظام. ويستشهد سعد القرش في معظم المقالات التي يضمها الكتاب بالكثير من الأسماء والمواقف لصحافيين ورؤساء تحرير ومقدمي برامج «توك شو»، في حِس حكائي كيف يتلون هؤلاء، ويتقلبون في آرائهم ومواقفهم، وفي عدم مهنية صارخة، فبعضهم كان أول مَن نزل إلى ميدان التحرير، وأول مَن شارك في ثورة يناير، وهو نفسه الذي يرى الآن في هذه الثورة أنها مصدر كل الشرور والمصائب التي حلت بالبلد.
الكتاب: «قبل تشييع الجنازة .. في وداع مهنة الصحافة»
المؤلف: سعد القرش
الناشر: ابن رشد للنشر والتوزيع. القاهرة 2020.