ياسمين مجديالحب والخوف والقتل وتداعياتهم الكبرى.. مشاعر تنمو داخل العراقيين يومياً لتصنع منهم شخصيات أسطورية.. أسطورة ينسجها واقع محمَّل بالشوارع المفخخة والتفجيرات والتصفيات الطائفية المتواصلة. فتبدو كأنها أحداث تدفع إلى الجنون كطريق أو إلى الخيال كبديل آخر تشقه الشخصيات لنفسها لتصبح أسطورية في واقع وطن يشبه ذلك، وكأن الجميع يكافح كما كتب المؤلف العراقي الشاب ضياء الخالدي في روايته ‘قتلة’ الصادرة عن دار التنوير: من أجل بقاء وطن، وذهاب أهله إلى الجحيم’ أشعر أن مخلوقاً غير مرئي يسير في الشوارع يبحث عن الطرائد، غولاً. أو وحشاً. أو تنيناً شفافاً يصفع الأرواح ويبعثر الأيام كيفما يشاء’.تكون النجاة من الموت في العراق أحد الأحداث الأسطورية في بلد خاض كثيرا من الحروب والثورات ثم شهد الوجود العسكري الأمريكي والتصفيات الطائفية والتفجيرات اليومية، لذا احدى الشخصيات الأسطورية في رواية ‘قتلة’ جبار الأبتر، الذي نجا من حرب إيران وضحى بساقه، مقابل نجاته شخصياً، وفي الفرصة الثانية لقتله في تفجير ببغداد إثر قنبلة وُضِعت تحت تخت مسنين. نجا أيضاً. فيتحول جبار إلى ‘كونه المحفوظ بعناية الأولياء’. شكرية.. عرافة بغداد، هي أسطورة أخرى لفتاة ليل في الحقبة السابقة تتحول لقارئة طالع ومتنبئة بالأحداث، فيلجأ لها السياسيون لتكشف لهم عن الأعداء والمفسدين. بلال صديق البطل هو شخص آخر يلجأ للجن ليعرف عن طريقهم أين القنابل وما هي الشوارع غير الآمنة التي يسعى فيها المسلحون لزرع انفجاراتهم. والطفل دودو المجنون الذي يريد الحرية، ويقذف الميليشيات المسلحة والأمريكان بالطوب، فتميته واحدة. مشروع القتلتدور رواية ضياء الخالدي ‘قتلة’ حول ثلاثة أصدقاء فوق الستين، لم يلتقوا منذ زمن طويل، هذا لأن ديار وعبود الحداد هاجرا من العراق منذ الستينيات بينما بقي البطل وهو عماد، حتى عاد إليه صديقاه بمشروع لأجل العراق، وهو أنهم قرروا استغلال نقودهم الكثيرة في إنقاذ العراق، عن طريق تصفية السيئين والخونة والقتلة والمغتصبين. يندفع البطل عماد بدافع نبيل وهو صالح الوطن، رغم تشككه في نوايا صديقيه على مدار الرواية، إلى أن يكتشف فعلاً عملهم لصالح جهات خارجية وليس لصالح العراق. وهنا لا تكون مفاجأة للقارئ لأن البطل تشكك في ذلك منذ بداية الرواية، وهو ما يؤخذ على الكاتب بأنه أفقد الحدث دهشته ومفارقته. تبدو الأسطورة هنا أيضاً في فكرة الحدوتة الرئيسية لعجائز فوق الستين ومتقاعدين يصنعون مستقبل وطن بالموت.. مكونين جماعة للقتل المسلح ويصيغون تاريخا سريا جديدا للعاصمة.صناعة الموت التي يمارسونها هي مشهد عراقي متكرر في سياق الموت اليومي الذي يحدث لأن كل طائفة – سنية أو شيعية – تريد تصفية الأخرى، مع حدوث نسبة خطأ واردة!: فثمة رجل ‘قتل غدراً بسبب طائفته، هو لا يصلي، يشرب الخمر. من الظلم أن يقتل من أجل انتماء ديني لم يختره. غير ملتزم فيه… حتى الملحد يموت أيضاً بسبب طائفته’. ‘زقاقنا اليوم فقد شخصين، طفل كالزهرة، وآخر كشوكة العاقول’. هذا أحد الأوجه العراقية اليومية التي تكشفها الرواية، وتخوض في المروحيات الأمريكية والعزاء اليومي، وسندوتشات كبة الموصل، والمجانين الذين يتم استدراجهم من قبل عصابات لتنفيذ عمليات انتحارية، البذخ في عيد ميلاد الرئيس يوم 28 نيسان من كل عام.. الحواجز الكونكريتية التي تحيط الأحياء بفتحتين؛ واحدة للدخول وواحدة للخروج، المدفأة ماركة علاء الدين.. قناة روتانا التي يتابعها الشباب.. الشباب الذي كان أباؤهم في الغالب جنودا في حرب العراق مع إيران والكويت، كما شهد أجدادهم أحداث سقوط الملكية، والثورات المتتابعة وظهور الاتجاهات الشيوعية وأحداث أخرى تعود للعثمانيين. تمر عليها جميعها الرواية مروراً سريعاً عارضة للتاريخ العراقي.إاشكاليات اللغةأحد الجوانب الذي تتعرض له الرواية هو اتخاذ الدين كذريعة للقتل، أو تفسيرات بعض الشيوخ للدين والتي تجعلهم يشكلون جماعات مسلحة ويقومون بتصفية أصحاب الطوائف الأخرى، هم كما أسماهم الكاتب: ‘أصحاب العمائم الملوثة’.ويؤخذ على الكاتب هنا أن الصياغة خانته في بعض الجمل، رغم الحساسية الشديدة في هذا الطرح، وضرورة التفريق بين الدين ورجال الدين، لأن الدين يدعو لكل قيم الحق، أما الذين يدعون للقتل، فهم الذين يسمون أنفسهم رجال الدين ويؤولون وفقاً لآرائهم الآيات. وقد بدا خطأ الصياغة لدى الكاتب في عدد من المواقع:، مثل قوله: ‘الموت وفناء الجسد والجنة والنار، وتلك الصور التي يضخها الدين في رؤوسنا كل يوم’. و’ما فائدة الأديان إذاً حين تكون سببا للقتل؟’.وكان من الأصح هنا أن يقول رجل الدين وليس الدين. بخلاف ذلك تبدو اللغة في الرواية فارقة، لأنها تسرد داخل الحدث نفسه معاني جديدة، ليقول البطل عن عقر زوجته: ‘العالم يعج بالمصائب، ولينام أولادي في العدم’، كما يقول البطل ان كثيرا من العراقيين يتم تهديدهم من أصحاب الطوائف الأخرى لترك منازلهم لكنه لا يحدث له ذلك: ‘صدفة مذهبية جعلتني قادرا على البقاء وعدم الهروب من المدينة’. وفي جملة معبرة جداً يسأل البطل إن كان ضميره يؤنبه لأنه يشترك في تصفية الآخرين: ‘ما يحدث في العاصمة يجعلني قاسياً… أريد يوماً يمر من دون ان أسمع مفردة مات أو قتل أو جثة أو..’. وبقدر قسوة المعاش تستخدم لغة الرواية ألفاظا قاسية بمنتهى البساطة: ‘الجثث في المساحات القفر. تبقى أياماً حتى تتعفن وتختفي بعض أجزائها في بطون كلاب عراقية جائعة، أو بنات آوى’.يبدو الجهد الذي بذله المؤلف في روايته الأولى ليس في متابعة الأحداث العراقية نفسها فحسب، بل في رصد تطور شكل الشارع وأفكار العراقيين على مدار سنوات بدأت عام 2006 وهو العام الذي تبدأ فيه أحداث الرواية. بالإضافة لجهد الكاتب في رصد التاريخ البعيد للعراقيين، وجغرافيا الشوارع العراقية، التي يعرض لأجوائها وتحولاتها، مثل الرشيد، وحي العدل، والسيدية، وحي صدام سابقاً وحي السلام حالياً. والأهم أن رواية ‘قتلة’ للكاتب العراقي الشاب ضياء الخالدي تأخذك إلى قلب الحدث، أو بالتحديد إلى قلب العراقيين بما يحملون من مشاعر حقيقية وتفسيرات لما يحدث حولهم من جنون. qadqpt