يعتقد المتلقّي الذي يُشاهد فيلم “قصص العابرين” للمُخرج العراقي قتيبة الجنابي أنه أمام شريط يوثِّق للهجرة، واللجوء، ووجع المنافي البعيدة، وهو كذلك، لكن هناك طبقات أخرى في هذا الفيلم الوثائقي الصعب الذي ينطوي على تحديات كثيرة تتعلق بالقصة السينمائية، وطريقة سردها إلى المُشاهِد، وحضور وغياب الشخصية الرئيسة فيها والذي اكتفى بدور الراوي العليم في غالبية القضايا التي تعرّض إليها على مدار الفيلم الذي بلغت مدته 67 دقيقة، باستثناء قضية جوهرية واحدة بقيت طيّ المجهول وهي فقدان أبيه الذي تمّ تغيّيبه إثر انقلاب 8 فبراير/شباط 1963.
يحمل فيلم “قصص العابرين” ملامح السيرة الذاتية، ونقيضها في آنٍ معًا، فالمُشاهد القريب جدًا من المخرج يعرف أن هذا الراوي الذي نسمع صوته بواسطة تقنية
الـ Voice-over هو المصوّر والمُخرج قتيبة الجنابي الذي يتحدث بضمير المتكلم، وأنّ والده المفقود أو المغيّب هو الزعيم الركن الشهيد داوود سلمان الجنابي. أما المُشاهِد البعيد، فيكاد يرى أناسًا بلا ملامح، وأماكن معوّمة يمكن أن نجدها في أوروبا الشرقية، أو في أمريكا اللاتينية، أو قد تجد لها صدىً في بعض البلدان العربية القابعة تحت نير أنظمة ديكتاتورية مُستَبدة، وكأن المُخرج يسعى لتجريد خطابه البصري، وتعويم الأمكنة، خاصة الأوروبية منها بوصفها منافي للشخصيات المُهاجرة أو المُقتَلعة من جذورها. ولو تأملنا سياق الفيلم جيدًا لوجدناه رحلة بصرية لمخرج الفيلم تمتد لمدة ثلاثين سنة أو يزيد، كما تشير المعلومات المدوّنة في نهاية الفيلم، وإن كانت سنوات غربته قد شارفت على الأربعين عامًا. وإذا كان هذا الفيلم سيرة ذاتية لمُصوِّره ومُخرجه ومُنتجه قتيبة الجنابي، فما هو نقيض هذه السيرة إذن؟ لم يظهر قتيبة الجنابي على مدار الفيلم، ولم نرَ صورته، فالراوي أو الكائن السيري يمكن أن يكون أي شخص آخر، وهذه القصة السينمائية التي وصلت إلى حدّ التجريد، يمكن أن تنطبق على آلاف الشخصيات، وإذا ما استثنينا بعض المشاهد البغدادية فإن بقية المَشاهد الأخرى التي أثثت المتن السردي للفيلم هي مَشاهد عمومية، يمكن أن تنطبق على مدن وبلدان كثيرة في العالم. ومن هنا جاء الاستنتاج بأن هذا الفيلم يمكن أن يكون نقيضًا لسيرة المخرج التي انتقلت من الفضاء الذاتي إلى الفضاء الموضوعي الأرحب.
أصداء الحروب
لا تستقيم الأفلام الروائية والوثائقية من دون قصة سينمائية محبوكة تتكئ عليها لتُغري، في نهاية المطاف، المتلقين بكل مستوياتهم الثقافية والفنية بمتابعتها، والانشداد إليها، وقصة هذا الفيلم تعتمد على السيرة الذاتية لمخرج الفيلم نفسه الذي يقدّم مبرراته الأولى لمغادرة العراق، البلد الذي تشتعل فيه الحروب، ويتفاقم فيه القمع، وتتضاءل فيه الحريات الشخصية والعامة، ولم يعد يتذكّر منه سوى الخطابات الرنّانة، والبيانات العسكرية المجعجعة التي يتردد صداها في أذنيه أينما حلّ أو ارتحل، وسوف يكون أحد هذه البيانات مثل اللازمة المملّة التي تتكرر في بعض الأناشيد التقليدية، كما هو الحال البيان الآتي: “يا أهلي وأحبتي من أبناء العراق النشامى، هذا والله اليوم الذي كنّا نريده وارتضيناه لأنفسنا لنُثبت لبلدنا وأهلنا وشعبنا أن الحليب الذي رضعناه من أمهاتنا كان حليبًا زاكيا”. لم يكن أمام الراوي من خيار سوى الرحيل عن الوطن بهدف “الفِرار من غرف الإعدام، وساحات المعركة” التي يموت فيها الشباب “موتًا مجانيًا” إثر اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، وسوف تستمر لثماني سنوات، يتكبّد فيها الطرفان خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات والبنى التحتية للبلدين المتحاربين. تتمحور القصة السينمائية حول ذات الراوي المتشظيّة والمذعورة، التي تتساءل في سرّها إن كانت هذه هي المرة الأخيرة التي يرى فيها بغداد، مدينته الحانية، وملاذه الأول؟ أم أنه سيودّعها إلى أجلٍ غير معلوم؟ لا أحد يشكّ في خوفه وهلعه، فرحلته محفوفة بالمخاطر الجديّة، وأولها الخوف من الاعتقال في أي لحظة طالما أنّ الأب، وهو الضابط الكبير، قد غُيّب مع نخبة من كبار الضباط ليلة 8 “شباط الأسود” كما تصفهُ الذاكرة الجمعية العراقية. وبما أن شِعرية التعبير موجودة عند الكثير من الفنانين المُرهَفين، فقد ظهرت في لحظات المغادرة التي كان يتوقع فيها أن يودعه الناس ولو بنظراتهم، ولكن “عيونهم كانت صامتة وحائرة مثل تماثيل الشوارع”، وهذا لعَمري أبلغ تعبير عن حالة الهلع التي أصابت المواطن العراقي في ظل النظام الديكتاتوري السابق.
لم ينسَ الجنابي أن يُلقي نظرته الأخيرة على الصالات السينمائية التي يحبها مثل، السندباد، والبيضاء، والنجوم، لكنه وجدها مغلقة وكأن بغداد برمتها تنغلق على نفسها مثل مُحارة في صَدَفة. وفي الوقت ذاته كان صوت أمه يتردد في أذنه: “ابني العزيز، عليكَ الهروب من العراق”. لقد نصحته بأن يهاجر لأنها لا تريد أن تفقده مثلما فقدت أباه، فلا غرابة أن يقرر الهجرة وهو في سنّ السابعة عشرة ليضع متلقية أمام اللحظة الحاسمة التي يقول فيها: “غادرتُ بغداد من دون وطن، ومن دون عائلة، ومن دون معرفة مصير والدي المغيّب”. ثم يمضي في تساؤلاته المحيّرة: “لا أعرف مَنْ اختارَ مَنْ؟ هل أنا اخترتُ الغربة ودروبها الفارغة الموحشة؟ أم هي التي اختارتني لتلفني بحضن صقيع ثلجها الوافر؟”، لابد لكاتب النص أن يجد حلولاً لهذه الأسئلة الإشكالية التي تختزل حياة السارد، فهو مصوِّر فوتوغرافي يجد في عدسة الكاميرا عزاءه الروحي الوحيد: “كاميرتي مثل بساط علاء الدين كنتُ أطير به من مكان إلى مكان، ومن وجه إلى وجه، ومن حنين إلى اشتياق” لعله قَبِل بالأمر الواقع فاندمج في محيطه الجديد، مسترجعًا الصور التي التقطها في بغداد وحرّضته على التقاط المزيد حتى وجد نفسه مدفونًا بآلاف الصور في بلاد غريبة لا تعرف ماهية هذا القادم الجديد، إلاّ بعد سنوات طوالا. لا يشعر الراوي بأنه منفيٌّ فقط، وإنما يعتقد بأنه بات شجرة بلا جذور تعصف بها رياح الاشتياق والحنين إلى النبع الأول الذي يسترجعه بواسطة شلال الذكريات المُستعادة عن قصد.
يحتفي الفيلم بصور لمفردات بصرية كثيرة مثل المحطات، الطرق، الجسور، الأرصفة والمصاطب المغروزة في الحدائق التي يلتقط منها “قصص العابرين” بواسطة الكاميرا، أو العين الثالثة، رفيقته الحميمة في لحظات العزلة والسفر، ومن دونها سيفشل هذا الراوي في تدوين يومياته وكتابتها بالعدسة الضوئية الساحرة. ربما يكون مَشهد الصور الفوتوغرافية هو من أهمّ المَشاهد التعبيرية في تغذية البنية الداخلية العميقة للفيلم لأنها تحرّضه على العودة للمكان الأول ليبحث عن روح والده التي ظلت تلازمه طوال حياته في المنفى، إذ كان والده يأتي إليه “على شكل صور فوتوغرافية ليضع الأسئلة ويغادر” والأنكى من ذلك أن حنينه إلى النبع الأول سينقطع لأنهم أخذوا أباه أمامه ناظريه، وغيّبوه من دون أن يفعل شيئًا.
البناء الفني
لم يلعب الكائن السيري أي دور في الفيلم باستثناء التعليق الصوتي، لأنه أسند الأحداث إلى شخصيات أخرى بغية تعميمها أو توسيع دائرتها في الأقل، فثمة مَشاهد مُستعارة من أفلامه السابقة مثل “الغرفة”، “حياة ساكنة”، “شتاء “، “الرحيل من بغداد”، “القطار”، “الجندي” و”العمق” التي تعالج ثيماته الرئيسة كالهجرة، والمنفى، والقلق الوجودي، والخشية من الآخر، والإحساس بالملاحقة حتى في بلدان اللجوء. ومَن يتأمل هذا الفيلم الوثائقي الناجح سيكتشف أن هناك جنديًا هاربًا من أتون الحرب وويلاتها، وأن هناك مذياعًا يلعب دورًا أساسيًا مؤرقًا في بنية الفيلم، الذي تتسيّد فيه المحطات الخالية من المسافرين. ثمة إحالات كثيرة إلى صعوبة الحياة في المنافي الأوروبية، حيث شاهدنا أحدهم يُطرَد لأنه لا يستطيع تسديد إيجار الشقة، وثمة رجل يفقد صديقته لأن مشاكله كثيرة، وآخر ترفض طلبه وزارة الداخلية، وتُشعِره بضرورة مغادرة البلاد خلال 72 ساعة. ويُختتم الفيلم بمشهد الجندي الذي يوارى حجرة كبيرة، كما يواري جثة شخص عزيز عليه. والسؤال الذي ينبري هنا هو: هل أن هذا التلاقح أو التناص مع شذرات من أفلامه السابقة يستوفي شروط الثيمة التي انضوت تحت عنوان “قصص العابرين” أم أن الفيلم ظل مفتوحًا على قصص كثيرة مقبلة، فالهجرة لن تتوقف، وبلدان اللجوء لن تغلق أبوابها بوجه المهاجرين أو المُقتلعين من جذورهم؟