أعتقد أنه من الأشياء الجيدة، أن لغات أخرى غير اللغات التقليدية، وأعني الإنكليزية والفرنسية على وجه الخصوص، اتجهت مؤخرا إلى ترجمة الأدب العربي لقرائها المفترضين، منها البولندية التي لم تكن تهتم سابقا بالأدب العربي أو كتابه، ومنها الفارسية والكردية والرومانية، لكن ما أدهشني حقيقة هو اتجاه الصين إلى هذا الأدب في السنوات الأخيرة، وأن كثيرا من الروايات ترجمت بالفعل، ونشرت ويوجد غيرها في الطريق.
هذه الترجمة في الغالب، تتم بواسطة صينيين، درسوا اللغة العربية وآدابها في جامعات متخصصة، ومنهم من عاش في بلدان عربية، بنية الاحتكاك باللغة مباشرة واستخلاصها من الشعوب، ومنهم من تحول بالفعل، إلى شبه مواطن لدول عربية، بحيث يستطيع أن يتحدث لغتها العامية، ويترنم بأغنياتها بلا أي صعوبة، وشاهدت مرة فيديو لمغن صيني يردد أغنية من أغنياتنا الوطنية، بانطلاق كبير، أيضا راسلتني مرة فتاة صينية، كتبت بعربية سليمة، وقالت بأنها متأثرة جدا بالمصير المؤلم لإحدى الشخصيات التي كتبتها في نص حديث، وتود لو أعدت النظر في ذلك المصير، وكتبت جزءا ثانيا كذبت فيه المصير الأول.
حقيقة دهشت من تلك الرسالة، وكان مفهومي عن الصينيين، هو تلك الصرامة المفرطة في تذوق آدابهم فقط، والكتابة عن طقوسهم وبلادهم الموغلة في الغرابة والطقوس، والذي يقرأ ملحمة كبرى مثل «بجعات برية»، أو يقرأ «الذرة الرفيعة الحمراء» لمويان، يدرك تماما، أي كنز محلي زاخر، موجود في تلك الثقافة، وقابل لأن يمنح ما يستطيع الكتاب استخلاصه منه. وأذكر أنني غرقت شهورا عدة في رواية «بجعات برية»، ولم أمل منها رغم ضخامتها، كانت في الواقع مسلية وزاخرة بالمعلومات عن تاريخ الصين القديم والمعاصر، فهي في النهاية سيرة لأسرة معينة، مرتبطة بالسيرة الكبرى للصين في أزمنة مختلفة.
«الذرة الرفيعة»، وكل إنتاج مويان، يدخل في لحم المنتج الصيني، بمعنى أن كل المعروض من معلومات وأجواء، وطريقة سرد، هو صيني تماما.
رددت على الفتاة التي اتضح في ما بعد، أنها درست اللغة العربية بجدية شديدة، وعاشت فترة في الخرطوم، تستخلص اللغة اليومية من الذين عرفتهم من سكانها، وأنها حتى لم تكن تستخدم اسما صينيا أثناء وجودها هناك، واختارت اسما عربيا، يستخدم بكثرة في بلادنا، لتنادى به.
أردت أن أتحدث عن فكرة تداخل الثقافات ببعضها، ودخول شذرات من ثقافة إلى ثقافة أخرى، وتبادل المعلومات، سواء كانت تراثية أو معاصرة، لينتج في النهاية نهج فريد من التآخي والتعامل بين الناس.
الثقافة العربية ليست جامدة ولا تحمل أشواكا حتى تتجنبها بقية الثقافات، أو تأخذ منها نتفا صغيرة على استحياء، وتحاول طمسها، والأدب العربي الذي هو جزء من الثقافة العربية يستحق أن يعامل بطريقة أكثر لطفا وانفتاحا.
الثقافة العربية ليست جامدة ولا تحمل أشواكا حتى تتجنبها بقية الثقافات، أو تأخذ منها نتفا صغيرة على استحياء، وتحاول طمسها، والأدب العربي الذي هو جزء من الثقافة العربية يستحق أن يعامل بطريقة أكثر لطفا وانفتاحا. نحن نترجم القصائد والقصص البعيدة بكثرة، نترجم لمبدعين أجانب نراهم يستحقون أن تعرفهم ثقافتنا، ولا نغضب حين لا يترجمنا أحد، أو يستخف بما يترجم لنا بواسطة أصدقاء فهموا الثقافة العربية وأحبوها، مثل تلك الصينية، ومثل كثيرين غيرها، يصارعون انشغالاتهم اليومية، ليترجموا نصا عربيا أحبوه إلى لغاتهم. وأعرف أن مستشرقين أوروبيين حصلوا على شهاداتهم العليا في نصوص لأدباء عرب قدامى أو حديثين، لا فرق، فالذي يدرس «طوق الحمامة» لابن حزم مثلا، يستطيع أن يدرس «فساد الأمكنة» لصبري موسى، والذي يقرأ شعرا لابن الفارض، يمكن جدا أن يقرأ شعرا لدرويش ومحمد سليمان. الفكرة هنا هي محبة الثقافة ولا شيء أكثر من ذلك.
لنتحدث عن ترجمة الأعمال العربية للغات غير الإنكليزية التي ذكرت بعضها، ونتساءل: كم نسخة من رواية عربية يمكن أن تطبع وتوزع في بلد مثل تشيكوسلوفاكيا، أو رومانيا، أو بولندا؟
في الواقع يبدو الأمر محبطا بعض الشيء، لكن دائما ثمة أمل ما دامت هناك مشاريع تطرح، وتنفذ حتى لو على نطاق ضيق، وكنت قرأت مرة مقالا لناقد بولندي، كتبه عن الأعمال الأدبية المترجمة للغة البولندية، وكانت قليلة للغاية، هناك بلدان كاملة في الوطن العربي، زاخرة بالأدب الجيد، لم يترجم من أدبها شيء، وبلدان كبيرة مثل مصر، ترجم منها عملان أو ثلاثة أعمال، كان الرجل يتحدث عن القراء، والتوزيع وذكر رقما بسيطا جدا، كمتوسط لعدد النسخ التي تباع، ويعتبر رقما جيدا بالنسبة لسمعة الأدب العربي وبعده عن أذهان القراء هناك، أظن الرقم خمسمئة نسخة أو أكثر قليلا. رقم سنعتبره نحن رقما محبطا ومضحكا، ولن يكون كذلك لو عدنا أصلا إلى عدد النسخ التي توزع باللغة العربية لمعظم من يكتبون، إنه الرقم البولندي نفسه تقريبا. بالطبع توجد طفرات أو لنقل موضات قراءة في كل مكان، أو حظوظ ربما، ويقفز عدد النسخ المباعة من عمل عربي في دولة أوروبية غير معنية بالأدب العربي، إلى عشرات الآلاف من النسخ، لكن ذلك غير مؤكد أيضا، وحتى لو حدث سيثير شيئا من الاستغراب.
أعود للصين الداخلة بقوة في كل المجالات، التي تتعاون مع دولنا العربية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، والتي تملك كثافة سكانية لا تستطيع دولة أخرى منافستها فيها. قلت إن الصين تصدت للثقافة العربية وللأدب العربي، وترجمت لنا أعمالا عربية خالصة بأجواء قصصية مختلفة، ومن دور نشر هناك تدعمها الدولة. في مشروع كهذا، ومع دولة كهذه، توقعت أن عشرات الآلاف من النسخ من أعمالنا ستنتج، وعشرات الآلاف سيتم اقتناؤها من مؤسسات كثيرة، وستوزع وسط هذه الكثافة السكانية بكل ارتياح، لكن ذلك لم يحدث وأظنه لن يحدث في الأمد القريب، الرقم المحبط نفسه يحيط بالترجمة الصينية، أو ربما يتضاعف إلى ألف نسخة، ولا شيء آخر.
لن أتحدث هذه المرة عن ضرورة الاهتمام بالأدب العربي، فلا فائدة من الحديث في ذلك الشأن، سأترك الأمر كما هو حادث، فربما تحدث معجزة في يوم ما، ويصبح أدبنا رائدا في فضاءات العالم.
٭ كاتب سوداني