في اللحظات الحرجة من عمر المجتمعات تتجلى قدرة الفنان صاحب المشروع الفني والإنساني على الخلق والعطاء، الفنان الذي يفترق في موقفه وتطلعاته عن بقية زملائه، لأنه لا يخضع لسلطة الواقع، بل يتحرك وفقا للقواعد التي يضعها لنفسه، مؤمنا بقدراته على إحداث التغيير، من دون أن تكسر إرادته المحن التي تواجهه، لربما يضعف ويصاب بالوهن أحيانا وقد ينهار نفسيا، لكن يصعب عليه التخلّي عن الحلم. مثل هذا النموذج ليس مجرد فكرة مثالية لا وجود لها في الواقع، بل هو حقيقة يمكن العثور عليها هنا وهناك. وعندما أعود قليلا بالذاكرة للوراء لكي أستحضر مسلسل “إبتسم أيها الجنرال” تأليف عروة محمد وإخراج سامر رضون، الذي عرض في رمضان العام الماضي 2023 على شاشة “العربي 2” أرى نموذج هذا الفنان في مجموعة من الممثلين السوريين النجوم الذين شاركوا في هذا العمل الدرامي أمثال، مكسيم خليل، غطفان غنوم، عبد الحكيم قطيفان، مازن الناطور، بسام قطيفان، ريم علي، سوسن ارشيد، مرح جبر، عزة البحر، دارينا الجندي، نوار بلبل، عبد القادر المنلا،كمال البني وآخرون. هذه النخبة كانت مثالا للوعي والشجاعة، عندما تحملت مسؤولية تقديم هذه التحفة الدرامية أيام كان بشار الأسد في ذروة طغيانه.
تركيب الشخصيات
المسلسل من حيث الزمن السردي اختار نقطة شروعه تلك اللحظة التي احتدم فيها الصراع على السلطة في ثمانينات القرن الماضي بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت، ومن خلال هذا الصراع أخذ السرد الدرامي يرصد محطات مهمة مرت في تاريخ النظام وتداعياتها على أفراد عائلة الأسد، وصولا إلى ساعة انطلاق الثورة منتصف اذار/مارس عام 2011 وما تبعها من أحداث مؤلمة رسمت تفاصيل التراجيديا السورية التي دامت أكثر من ثلاثة عشر عاما. اللافت في الأمر أن المؤلف في رؤيته التخييلية للواقع عمد إلى جمع الأب والإبن (حافظ وبشار) في شخصية واحدة، ليبدو هذا الخيار تقنية درامية بغاية الذكاء، على اعتبار أن رؤيته للشخصيتين ليس بينهما أي اختلاف في الواقع، وحتى لو كانت هناك اختلافات في الملامح أو القدرات السياسية، إلاّ أن ما يجمعها من صفات القسوة والعنف والتطرف في التعامل مع الخصوم، هي أكثر مما يفرقهما، بالتالي تم توظيف هذا المزج بين الشخصيتين لتلافي الكثير من التفاصيل والأحداث التي قد تثقل بناء العمل، كما أن خيار ترجيح الرؤية التخييلية للواقع التي انحاز إليها وهو يتصدى لتاريخ طويل من المؤامرات والدم والجرائم التي ارتكبها الأب والإبن طيلة فترة حكمهما، منح المسلسل جماليته الفنية، إلى جانب التزامه مسار الزمن الواقعي للأحداث التي يشهد عليها التاريخ. والقضية التي تتصدر قصدية العمل أنه توقف طويلا أمام تركيبة العلاقات المتصارعة داخل عائلة الأسد على كرسي السلطة خاصة بين الشقيقين، وانهيار المنظومة القيمية بينهما بسبب هذا الصراع، ومن هنا يمكن النظر إلى المسلسل باعتباره مشروعا دراميا في تفكيك طبيعة النظام من الداخل.
خصوصية العمل
أهميته تكمن في أمرين، الأول: أن إنتاجه تم أثناء ما كان نظام الأسد يتمتع بقوة وسطوة أمنية، ومحاطا بدائرة من الحلفاء والمصفقين الذين كانوا يضفون عليه الشرعية رغم الجرائم التي لم يكن يتردد في أن يرتكبها بحق السوريين. والأمر الثاني أن جميع مشاهده صوِّرت خارج سوريا، بعيدا عن سلطة الرقيب، ولهذا حفل بجرأة غير معهودة في الدراما العربية، حيث بدا سقفها عاليا في سرد التاريخ الدموي لعائلة الأسد، ولا أظن أن هناك عملا دراميا آخر يجاريه في ما ذهب إليه من حرية في القراءة. ومن الناحية الفنية، فإن خطابه لم يسقط في فخ المباشرة الفجة، رغم الموضوعة السياسية المهيمنة عليه، بل طوع حواره بلغة تواشجت فيها البساطة والعمق والإيحاء، فضلا عن ارتفاع المستوى الفني للإنتاج، تأليفا وإخراجا وتمثيلا وإدارة تصوير.
مغامرة خطرة
لا جدال في أنه كان مغامرة محفوفة بالمخاطر بكل ما تعنيه هذه المفردة، وقد تحمل مسؤوليتها معظم الممثلين، لأن نظام الأسد معروف عنه عدم تسامحه مع من ينتقده أو يختلف معه، وما السجون السرية التي تم الكشف عن فظائعها بعد سقوطه في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024 إلاَّ أدلة دامغة ومرعبة على ذلك، ولهذا كان الممثلون بغاية الشجاعة، لأنهم لم يعيروا أهمية لحجم الخسارات التي سيدفعونها على المستوى المهني إذا ما ساهموا في المسلسل، فلا شركات إنتاج ستشركهم في عروضها، ولا فضائيات ستشتري منهم العمل (عرضته قناة العربي 2 فقط) بمعنى أنهم وضعوا تاريخهم ومستقبلهم المهني في خدمة الهدف النبيل الذي التقوا عنده، وذلك بأن يكونوا جزءا من مصير شعبهم الذي خرج منتفضا على نظام الأسد، ودفع الثمن باهظا لأجل ذلك.
قوة الأداء التمثيلي
وعند الحديث عن التمثيل لابد من الإشادة بما قدمه الممثل غطفان غنوم في شخصية شقيق الرئيس، والتي جاء بناؤها الدرامي مركبا، لتجمع في دلالاتها أكثر من شخصية واقعية تنتمي لعائلة الأسد (رفعت وباسل وماهر)، فكان أداءه مبهرا بالشكل الذي يصعب نسيانه مطلقا، ويجعل منه رقما صعبا في قائمة الممثلين المجتهدين، ويستحق أن ينال عن أدائه أرفع الجوائز. أما الممثل السوري مكسيم خليل أدى شخصية الرئيس، فليس بجديد عندما نجده يكشف عن حضور فعال ومؤثر، وعبر أداء لا يلجأ فيه مطلقا إلى الافراط في التعبير عن المشاعر وردود الأفعال، إنه ممثل بتمتع بحرفية عالية وخبرة متراكمة في التعبير عما يجول في أعماق الشخصية. والاعجاب أيضا يتحول باتجاه الممثلَين عبد الحكيم قطيفان ومازن الناطور، فكلاهما لديهما من الحضور الطبيعي، ما يمنح المساحة التي يتحركان فيها ضمن حدود الشخصية التي يؤديانها، توهجا وتأثيرا يمتد وبقوة إلى المتلقي.
أخيرا لابد من القول بأن النخبة التي ساهمت في هذا العمل; نموذج مشرف للفنان الذي يكتمل حضوره الفني المشرق بما يصدر عنه من مواقف يعلي فيها من شأن الإنسان وكرامته وحريته، ولا يلتفت فيها لحسابات الربح والخسارة إذا ما تطلب الأمر أن يختار بين العتمة والنور.