قرابين القصور

كوارثنا الأرضية تدل على أن هذا الكون الشاسع بكرته الأرضية المنمنمة لا يلتفت لنا مطلقاً، ليس لنا أي وزن في حساباته الفيزيائية، ليس لنا أي أهمية أو ثقل يدفعان به لإنصافنا، للتفاوض معنا، فالكون لا يريد منا شيئاً، نحن الذين نريد من هذا الكون كل شيء، كل حماية. نحن أسرى هذا الكون المنسيون على هذا الكوكب المتناهي الصغر، ليس لدينا ما نقدمه ليحدث فرقاً عند الكون أو ليقلب كفة الميزان في صالحنا. ليس لدينا سوى أنفسنا، إنسانيتنا وسواعدنا، هي التي قد تنقذ ما يمكن إنقاذه.
ولأن الثقل كله على إنسانيتنا، تعتريني موجات خوف أحياناً لا أستطيع إيقاف تسوناميتها، فنحن كثيراً ما نستمهل الإنسانية فيما نحن في أشد الحاجة إليها، كثيراً ما نؤجلها لصالح القدرة على البقاء، كثيراً ما نتركها عند باب «أنا ومن بعدي الطوفان». في هذه الأزمة البشرية الوجوية التي تمر بنا، بدأت الكثير من دول ومجتمعات العالم تضع الإنسانية على قائمة الانتظار محاولة إنقاذ نفسها بترتيب هرمي، فيكون التركيز أولاً على كل الأفراد المنتمين لهذا المجتمع واستبعاد الغرباء والأجانب، لتتطور هذه المرحلة للتركيز على الأفراد الأكثر حظاً في ذات المجتمع من المؤثرين من الطبقة الوسطى، لتنتهي الى إنقاذ من يمكن إنقاذه من الأغنياء القادرين على حماية أنفسهم بأموالهم ونفوذهم. سيدفع الثمن الأكبر لهذه الأزمة، مثل كل أزمات البشرية السابقة، الفقراء المعدمون الذين أنهكتهم الحياة مقدماً، وسرقت منهم كل الأسلحة المطلوبة للدفاع عن النفس. سيناريو قاتم، أعلم ذلك وأعتذر أنني أنفس عن مخاوفي منه هنا، لكن بعض مظاهره التي بدأت بالظهور تدفع للكتابة عنه ومواجهته حتى لا تأخذنا مخاوفنا إلى منطقة معتمة تختفي فيها الإنسانية تماماً. إذا كنا متأزمين من العزلة والتباعد وانقطاع وسائل الترفيه وانحسار إمكانية التنزه والتسوق والتزاور، علينا أن نتذكر أن هذه الأزمات التي نعانيها إنما هي صور رفاهية لا تتوفر للكثيرين الأقل حظوظاً منا: النائمين على أرصفة الشوارع، والمتكدسين في غرف ضيقة قذرة مختنقة، والمتعلقين فوق القطارات المتهالكة محاولين الوصول لقراهم وعائلاتهم قبل أن يمسك الوباء بأجسادهم، واللاجئين المتلاصقين في مخيماتهم، والعمال الذين يكسبون قوتهم بشكل يومي والآن انقطع مصدر رزقهم، المعوزين الذين لا يستطيعون أن يجدوا ماء فضلاً عن الصابون ليعقموا به أنفسهم، المنهكين الذين لا يستطيعون توفير لقمة لسد جوع أبنائهم وتقوية أجسادهم لمواجهة الوحش المفترس القادم باتجاههم هم تحديداً قبل غيرهم. فالطريق لهؤلاء ممهد، سهل، مفتوح الأطراف والجوانب لوحش الوباء كي يهجم ويفترس بكل قوة فيما بقية البشر يختبئون في بيوتهم وتحديداً يختبئون من هؤلاء المنكوبين الذين أصبحوا، بفعل الجشع والطمع والأنانية، حاملات للوباء وناقلات له. هل سنصل يوماً لمرحلة ندعو فيها للتخلص من الفقراء لننقذ بقية العالم؟ إذا فعلنا، هل سيبقى في العالم ما يستحق الإنقاذ؟
هذه أيام صعبة، سوادها قاتم. لم أعد أرى بوضوح، لا أستطيع أن أشير إلى المبادئ والمثل بسهولة، كلما قلت شيئاً أستدركه، كلما أطلقت جملة أتبعتها بـ»لكن»، كلما خاطبت مبدأ راجعت مثاليته وإذا ما خاطبته إنما أدعو للقضاء على البشرية كلها، ولكن ما هي البشرية بلا إنسانيتها؟ ما فائدة وجود آلات بشرية مخلية من روحها الإنسانية؟ أي معنى لوجودنا إذا ما لم نتعاضد الآن، إذا ما لم يحمل الأغنياء الفقراء على ظهورهم مرة واحدة فقط في مقابل تاريخ ممتد من حمل الفقراء للأغنياء؟ يخبرنا تاريخنا البشري أن الفقراء هم أول من سيدفع الثمن، هم أول الضحايا وبادئ الأضحيات، الأضحيات التي تقدم فداء للأغنياء، قرابين الشوارع التي تهدى لحماية أصحاب القصور.
المزاج اليوم قاتم، أعتذر عن ذلك، صور فقراء الهند وهم يتسلقون قطارات الفقر عودة لقراهم ومدنهم، الإيطاليون المنكوبون يتأرجحون اليوم على ساق منفردة منهكة، الأسبان المهملون وقد نفدت لديهم كل الأجهزة والأدوات، الأمريكان الذين يسري فيهم المريض كالنار في الهشيم بنظام صحي هو الأقسى والأكثر تكلفة في العالم، تسجيلات ساكني الشوارع الذين انضم إلى أعدائهم من جوع وعطش وبرد وحش وبائي مفترس، العمال في أنحاء الدنيا الذين يحيون عند الحدود الدنيا وتود الدول التخلص منهم اليوم بعد أن أصبحوا مصادر حفظ الوباء ونقله، ها هم يؤكلون لحماً ويرمون عظماً. كل هذه الصور المتتالية التي نراها من بيوتنا الآمنة تقرب الحقيقة منا، وفي الوقت ذاته تحمينا منها بالشاشات الزجاجية التي تختبئ هذه الصور خلفها، نراها من بعيد، لا نقربها، نحزن عليها بعض الشيء، نبكي ظروف أهلها، ثم نقوم لوجبة الغداء. كيف يمكن أن يكون المزاج أفضل، كيف يمكن للروح أن تكون طبيعية والنفس أن تكون صحية ونحن نحيا هذه النقائض التي تختبر إنسانينا كل يوم، تختبرنا ونرسب، نرسب فتظلم الدنيا أكثر… هل من مخرج؟ هل ستشرق الشمس في يوم؟ ما زلت مؤمنة بالإنسانية، أنتظر انتصارها، أصلي لأنفاسها المتقطعة أن تقوى وتستمر، صلوا معي..

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ما دام الكلام عن الإنسانية فإني أقول وبكل ثقة أنكم أيها العلمانيون لا تطبقون الإنسانية بحياتكم كما يطبقها الإسلام, والدليل:
    نحن المسلمين نهتم بكبار السن أكثر من أنفسنا ومن أولادنا, أما أنتم فتحرموهم من أجهزة التنفس لتعطوها للشباب الأقوياء!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول سنتيك اليونان:

      الى مسيو كروي
      اذا كان الأمر كذالك لماذا الناجون من ويلات الحرب واللاجئون وهم مسلمون لماذا يهاجروا الى الغرب العلماني وليس الى الشرق الإسلامي

    2. يقول عبد الكريم البيضاوي:

      جاري العزيز داود.

      جوابا على سؤالك وهو أن أجهزة التنفس هذه لاتكفي لجميع المرضى, وليس كرها أو بغضا ضد كبار السن ذاك هو السبب وليس أي شيء آخر . من تقدم كثيرا في السن كثيرا وله أمراض أخرى مزمنة ونسبة بقائه في الحياة كما يقولون ربما بين سنة أو سنتين وليس أكثر فالأفضل مساعدة شاب مريض في حاجة إليها لاتزال أمامه من الحياة عقودا وعقودا يحياها مع أسرته وأطفاله ؟ هذا ما فعلته الظروف ياصديقي وليس كراهية في كبار السن وأنت تعلم ذلك في النرويج كم هي العناية الفائقة التي يقدمونها لهذه الفئات في الظروف العادية.
      عزيزي داود , العلمانيون أكثر الناس إنسانية , لأنهم ينظرون للإنسان كإنسان قبل أي شيء وليس على أساس أهن من ديني أو العرق أو الطائفة التي أنتمي إليها.
      أظن جدالا كهذا لافائدة من ورائه.
      تحياتي وأتمنى

    3. يقول علي:

      يهرب المسلمون المظلومون إلى الغرب المستنير لأنه أقل وحشية من وكلائه الهمج في الشرق الإسلامي.
      كان الغرب يرحب بهم يوم كان في حاجة إلى أيدي عاملة رخيصة،اليوم يبقيهم على الحدود، ويقصفهم بمدافعه لأنه ليس في حاجة إليهم،
      ويقوم في الوقت نفسه بسن القوانين العنصرية لتطفيش من عاشوا لديه طويلا وخدموه كثيرا. العلمانية
      تعرف الدولار لا الإنسانية!

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    العلمانية أتت لبلادنا بحكام طغاة فاسدين أفقروا الفقير وأغنوا الغني! أما الإسلام ففرض على الغني نصيب للفقير!!
    حين حكم عمر بن عبدالعزيز فاضت أموال الزكاة والصدقات عن حاجة فقراء المسلمين وغيرهم! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    ألا ليت الخروج يعود يوماً
    فأخبره بما فعل الجلوسُ
    – أبو الطيب المتخبي –

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    معلومة قرأتها سيسر منها الأشقاء المغاربة!
    إمام مسجد بإيطاليا يعاني من مصاريف دفن الموتى المسلمين بفيروس كورونا (حوالي 2500 يورو)
    وبما أن أغلبية الموتى من المغرب, تكفلت قنصلية المغرب هناك بإجور الدفن للمغاربة! أما غيرهم فيُدفنون بالصدقات!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول علي:

    عم صباحا يا كورونا
    جعلتنا نفكرفي الآخرين،وإن كنا نسينا المظلومين المرشيحين للإبادة بالفيروس،أعني عشرات الألوف فيسجون وأقبية الجنرالات والمناشير والطائفيين. الدول الشمولية تفرج عن آلاف المساجين السياسيين والجنائيين،ولكن الطغاة على تعددأشكالهم وألوانهم يصرون على الإبادة والإهلاك بلا رحمة ولا إنسانية لصفوة مجتمعاتهممن الأكاديميين والأطباء والعلماء والمهندسين والصيادلة. وانضم إلى الطغاةالعنصريون الذين يرون إلقاء الزائدين عن الحاجة كما يتصورون في الصحراء!

  6. يقول علي:

    هذا الكون الشاسع بكرته الأرضية المنمنمة لا يلتفت لنا مطلقاً، ليس لنا أي وزن في حساباته الفيزيائية، ليس لنا أي أهمية أو ثقل يدفعان به لإنصافنا،ولكن إله الكون الذي نؤمن يلتفت إلينا ويقدر الأقدار ،وينظر وفقا لمنهج” ولنبلونّكم..” إلى سلوكنا وأعمالنا،وليس إلى مناظرنا وأشكالنا. هل كنا حقا على مستوى الإنسانية الحقة؟هل قمنا بالإيثار والرحمة والمودة كما ينبغى أوإننا عشنا بمنطق أنا وبعدى الطوفان؟
    إن العنصريين الذين وجدوا في المحنة فرصة لإخراج ما في قلوبهم السوداء العنصرية ضد من يخدمونهم ويضحون من أجلهم اعتقادا أنهم السادة وغيرهم العبيد،وأنهم العنصر الأفضل؛ تناسوا أنهم أمام الوباء سواء مع من يريدون إلقاءهم في الصحراء. صحيح أنهم لا يمثلون المجتمع الإنساني،و لايعدون من مادته الصلبة،ولكن المحنة تكشف جوهر الناس والأشياء، ولا يقل عنها خسة ودناءة تلك الدول التي تفضل الدولار على الإنسان.

  7. يقول علي:

    يؤمن المسلم أن الأعمار بيد الله، وأن الدنيا قنطرة إلى الآخرة حيث الحياة الدائمة، وعليه وهويعبرهذه القنطرةأن يأخذبالأسباب، ويعلم أنه مثله مثل غيره من البشر من حيث الجذر والنهاية،فحياته مسخرة لعبادةربه،والطاعةلأوامره واجتناب نواهيه وفي مقدمة الامتثال للإرادةالإلهية هو تخصيص العبودية لله وحده. لا عبودية لأصنام أو مخلوق سواه. ول ذلكيصبفي العيش من خلال الرضا وعد الاستعلاء ورفض الاستكبار، والسعي في مناكبها من أجل العيش والعلم ورفض الظلم وإشاعة الرحمة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ولهذا فإن الطواغيت والعنصريين والمتعصبين، خارجون عن منهج الإسلام، لأنهم يؤذون الله ورسوله والمؤمنين. ترى ما الذي يجعل الطاغية يستخف بوجود المواطن الذي يتغرب ويشقي ليساعد وطنه وقومه، فلا يجد إلا الجحود والنكران والهوان، بل لا يلقى معاملة إنسانية كريمة، ويطالبه الطاغية أن يدفع ثمن تذكرة الطائرة مضاعفة،وثمن الحجر الصحي مضاعفا،ويتنازل عن كرامته أضعافا؟.

  8. يقول علي:

    4- يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13).
    ما أروع هذا المنهج.إن أكرمكم عند الله أتقاكم! ولكن هناك من يتصور أن العسكري وابن القبيلة، وابن الحاكم هوالأصيل والأعلى والأفضل ، ولذا يتحرك بفكرة ماعلمت لكم من إله غيري! وللأسف فإن الأبواق والأدوات التي يستخدمها العنصريون بكافة أشكالهم تدندن على فكرة العداء للمغاير ولو كان على صواب. أمامي الآنعلىإحدى الشاشات مذيع بدرجةمخبر، يتحدث عن كورنا، فلا يتناول تقصير إلهه العاجز في قصر الحكم، ولا فهلوة الأجهزة الحكومية وأكاذيبها في الحديث إلى الناس، ولكنه يحوّر الحوار إلى اتهام هذا الفريق من الناس أو ذاك بأنهم يخططون لإسقاط الدولة وتنفيذ أغراض خبيثة،مع أن هذا لفريق أو ذاك يبغي مساعدة من أتت المحنة على ما يملكون،وذهبت بمصادر رزقهم وحولتهم إلى عطالة لا حول لها ولا طول،وبدلا من أن يشكر الناس على مساعدتهم لضعفاء المحنة وضحاياها، يعزف على وتر الخصومة الوحشية والعنصرية الفجة.

  9. يقول علي:

    5-إن حكوماتنا العنصرية وإداراتنا الفاشلة ل ا تختلف عن الأفراد الذين يعيشون بالغطرسة والعجرفة والنفخة الكدابة. إنهم ليسوا كرماء، لأن قلوبهم خلت من التقوي، وعمرت بالأنانية والبغضاء والاستعلاء. هدانا الله وإياهم.

  10. يقول .Dinars. #TUN.:

    وباء كورونا أعاد الإنسان إلى نقطة البداية وفي خدمته وسائل اتصال متطورة
    لعل أو من المؤكد أن الوباء القادم سوف يرجع بالبشرية إلى الحياة البدائية.

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية