رام الله ـ «القدس العربي»: يستعرض فلسطينيون تطورات وتحولات وتبدلات مرجعية «عملية السلام» الإسرائيلية الفلسطينية حتى اللحظة، فكل شيء قابل للتغير والتبدل في مزاد المناقصة على حقوق الشعب الفلسطيني، يستعرضون بالقول إنها مرت بمجموعة من المراحل: فمن الأرض مقابل السلام، إلى الاقتصاد مقابل السلام، وصولا لمرحلة السلام مقابل السلام، وأخيرا وليس آخرا، الوصول إلى مرحلة الأرض مقابل «المقاصة». ويسخر الإعلامي الاقتصادي جعفر صدقة بالقول و«ليس جميعها» أي ليس كل أموال الضرائب الفلسطينية التي تجبيها دولة الاحتلال نيابة عن السلطة الفلسطينية. فالأموال التي سيفرج عنها لن تشمل الأموال المخصصة لقطاع غزة، كما سيتم اقتطاع قيمة رواتب الأسرى وعائلات الشهداء.
والمسألة هنا تتجاوز القرارات التي وافق عليها الكابينيت الإسرائيلي المصغر بناء على توصيات وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسئليل سموتيريتش، فنحن ومنذ ما بعد السابع من أكتوبر العام الماضي أمام سلسلة من القرارات والممارسات والسياسات التي تؤشر على ليل الضفة الطويل المقبل.
القرارات الأخيرة التي وصفها السياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي بأنها الأخطر على القضية الفلسطينية منذ عام 1984 وهي حسب المحلل السياسي والخبير في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور من «أخطر القرارات التي اتخذتها حكومة الاحتلال في السنوات الأخيرة» وهي تستدعي العمل والسعي «كي يعرف الفلسطيني وضعه».
يقول منصور: «بكل بساطة هي حسم موضوع الضفة الغربية نهائيا، كما أنها تعمل على اضعاف السلطة الفلسطينية ومنعها من الحركة والعمل والتدخل كي لا يكون لها أي دور في مناطق (ج) التي تشكل ما نسبته 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية».
ويكمل: «القرارات كثيرة ومنها تشريع 5 بؤر استيطانية حيث ستتحول لمستوطنات قانونية، وثانيا: ملاحقة الفلسطينيين في مناطق (ج) وخاصة في برية القدس والبحر الميت والمنطقة التي تمتد على مساحات شاسعة بين القدس، بيت لحم رام الله أريحا وصولا إلى كافة مناطق (ج) حيث سيتم ترجمة هذا القرار بشكل أكبر وبموجبه سيتم ملاحقة كل فلسطيني، ولو قام ببناء (طوبة) سيتم هدمها».
ويستطرد بالحديث عن المؤسسة الأهلية الاستيطانية الأكثر شهرة وهي «ريغافيم» والتي تعمل على رصد كل ما يجري في مناطق «ج» فهي ترصد كل حجر وكل «بركس» يبنى، وتحرض الجيش عليه وتلزمه بعملية الهدم وحصر وجود الفلسطينيين في أضيق نطاق، والمفارقة أن من كان يدير ريغافيم وهو صديق المتطرف سمويتريتش، أصبح نائبا لرئيس الإدارة المدنية، وهذا يعني أنه تم دمج المنظمة في الإدارة المدنية بهدف التضييق على الفلسطينيين وحصر وجودهم.
وحسب الكاتب وليد حباس فإن منظمة «ريغافيم» الاستيطانية نمت من NGO منظمة غير حكومية صغيرة تعمل على منع البناء الفلسطيني «غير القانوني» في الأراضي المصنفة «ج» إلى صاحبة سلطات ونفوذ في الضفة الغربية. وبينما أن صلاحيات «المنسق» (COGAT) تنهار تدريجياً لتغدو مركزة أكثر فيما يخص إدارة شؤون السكان الفلسطينيين، فإن «ريغافيم» تتحول تدريجياً إلى «المنسق» البديل الذي يدير مستقبل الأراضي «ج».
ويضيف حباس، في تقرير صادر عن «مؤسسة مدار» المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، فإنه ومنذ بداية العام 2023 يمكن النظر إلى «ريغافيم» على أنها «الإدارة العليا» للمشروع الاستيطاني، وتقف على رأس منظومة عمل (ecosystem)؛ فهي تركز على العلاقة بين شبكة معقدة من الكيانات التي تشمل الحكومة الإسرائيلية، والإدارة المدنية، ومنظمات استيطانية، ووزارات ووكالات حكومية متعددة، الأمر الذي يجعل برنامج عمل «ريغافيم» هو برنامج الدولة فيما يخص الأراضي «ج».
وفي العام 2023 أصبح سموتريتش (أحد مؤسسي «ريغافيم») وزيراً للمالية ووزيراً ثانياً داخل وزارة الجيش (الدفاع) ومسؤولاً عن شؤون المستوطنين في الأراضي «ج». أما يهودا إلياهو، فأصبح في العام 2023 مسؤولاً عن «دائرة الاستيطان» وهي دائرة مستحدثة داخل الجيش، تهدف إلى نقل صلاحيات الأرض المحتلة من الجيش (كما جرت العادة بين 1967-2023) إلى وزارات دولة إسرائيل. وبهذا، فإن «ريغافيم» تنتقل في عملها، ونفوذها، والسلطات الممنوحة لها، إلى موقع جديد كلياً يتيح لها ممارسة دورها ليس بعد كمنظمة NGO استيطانية، وإنما كهيئة عليا في طريقها إلى «الاستفراد» في تقرير مصير الأراضي «ج».
إغراء الأكل والشراب
وفق القرارات الأخيرة للمجلس الوزاري المصغر فإن الوجود الفلسطيني في مناطق «ج» كان وفق معادلة سلطة مدنية فلسطينية مقابل سلطة أمنية إسرائيلية وفق اتفاقية أوسلو، لكنها اليوم وبعد القرارات الأخيرة ستتحول إلى سلطة مدنية وسياسية وأمنية إسرائيلية فقط.
يكمل منصور: «قرارات معاقبة رجالات السلطة على التحريض وعلى أنهم قاموا بخطوات أحادية في المحكمة الجنائية الدولية وفي الأمم المتحدة، والعقوبات التي قد تصل للإبعاد، تشمل سحب تصاريح والحد من الحركة».
والمفارقة وبالتوازي مع القرارات السابقة أتخذ الكابينيت قرار تحول أموال المقاصة للسلطة الفلسطينية بعد اقتطاع 40 في المئة منها، وتمديد العمل مع البنوك الفلسطينية التي لا تتعامل معها البنوك الإسرائيلية إلا من خلال ورقة ضمانات سنوية تصدرها الحكومة الإسرائيلية كي لا يتم معاقبتها ومحاكمتها بالإرهاب بفعل التعاطي مع البنوك الفلسطينية وهو الأمر الذي يستثمره سموتيريتش لابتزاز الفلسطينيين.
وحسب منصور فإن إلغاء وزير المالية الإسرائيلي ورقة الضمانات ومن ثم بضغط أمريكي قام بإعادة الكتاب الرسمي لمدة ستة شهور ومن ثم تمديدها لثلاثة شهور، وتقديم جانب من أموال المقاصة، ومن ثم، ربما، السماح بإدخال عمال إلى الداخل الفلسطيني للعمل هناك، كلها جوانب من السياسة الاحتلالية الجديدة.
يضيف: «هناك ضغط فلسطيني على الأرض، منعهم من امتلاك أي أرض، أي أن يقفوا في الهواء، فقط يتنفسون من خلال العمل والحصول على الرواتب، وهذا يعني تزويد الفلسطينيين بمتنفس كي لا ينفجروا في وجه القرارات الأخيرة، فسرقة الأرض تقابلها إغراءات الأكل والشراب تحت السيطرة الإسرائيلية».
وكان من الملاحظ في تصريحات سموتريتش الأخيرة هو عدم إشارته إلى مناطق «أ» التي يفترض أن تكون خاضعة للسيطرة الأمنية والمدنية الفلسطينية، وكذلك مناطق «ب» وهو أمر رآه مراقبون بإن اليمين المتطرف لا يتعامل مع الضفة الغربية وفق هذه التقسيمات، فهم يتحدثون عن كامل الضفة الغربية، وهي سياسة إسرائيلية بدأت منذ عام 2003 وتتكرس بعد السابع من أكتوبر العام الماضي.
مجزرة هدم المنازل
يذكر أنه وبتاريخ 20 تموز/يوليو من العام الماضي كشفت صحيفة «هآرتس» العبرية عن أن الوزير بتسئليل سموتريتش المسؤول عن «الإدارة المدنية» يعكف على صياغة خطة تسمح لـ «إسرائيل» بتدمير البناء الفلسطيني في المنطقتين «أ» و «ب» في الضفة الغربية، بحجة أن المباني التي سيتم هدمها تتعارض مع «الأمن القومي» الإسرائيلي. ورأت الصحيفة أن خطة سموتريتش الجديدة هي «نقطة تحول» في السياسة الإسرائيلية في ملف إنفاذ القانون فيما يتعلق بالبناء في الضفة الغربية، والذي يتم تنفيذه حاليًا وفقًا لاتفاقيات أوسلو في المناطق المصنّفة «ج» طبقًا لاتفاق أوسلو.
وحسب آخر تقرير شهري فلسطيني فقد هدمت آليات الاحتلال خلال شهر أيار/مايو الماضي، 34 منزلا فلسطينيا، بالإضافة إلى هدم نحو 26 منشأة تجارية في الضفة الغربية والقدس، من بينها حظائر أغنام وغرف زراعية ومنشآت تجارية أخرى. كما قامت قوات الاحتلال باقتلاع نحو 515 شجرة في بيت لحم وجنين، وجرّفت 4 دونمات من أراضي الشيخ جراح في القدس، فيما صادرت سلطات الاحتلال 14 دونما من أراضي المواطنين الفلسطينيين في الضفة والقدس.
المعلومات السابقة مصدرها تقارير مجموعة الرقابة الفلسطينية التابعة لدائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية «أوتشا» وهيئة مقاومة الجدار والاستيطان، وتقارير هيئة مراقبة الأنشطة الاستعمارية في الأراضي الفلسطينية المحتلة «poica» وكلها تشير إلى أن قرارات الاحتلال تسبقها الممارسة على الأرض فيما تأتي القرارات كترجمة لها، وهو ما يعكسه الميدان الفلسطيني المتفجر في الضفة الغربية، ففي يوم واحد من الأسبوع الماضي هدم الاحتلال نحو 17 منزلا في الضفة الغربية، وهو ما يؤشر على ليل الضفة الغربية الطويل في ظل القرارات الاحتلالية ومن دونها أيضا.
وعلى صعيد ممارسات وأنشطة الجيش في الضفة الغربية فغالبا ما لا يتيح متابعة الأخبار منفصلة حجم الصورة الكلية، فالمعلومات التي يقدمها قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال يهودا فوكس تمنحنا مقدرة على رؤية حجم التصعيد الاحتلالي الخطير ومن خلال أرقام الاحتلال ذاته، فأثناء الحرب على غزة، كما يقول: «عملنا في الضفة على مصادرة 22 مليون شيقل، واعتقلنا الآلاف، وهدمنا 24 منزلًا، ونفذنا 49 هجمة من الجو، وأحبطنا 10 آلاف عملية، وصادرنا 711 قطعة سلاح».