للأزمة المتجددة في إقليم ناغورنو قرة باغ الواقع ضمن حدود أذربيجان، الذي تقطنه أغلبية أرمينية، دلالات كثيرة، فهي تؤكد لنا مرة أخرى أن صراعات الحاضر ليست سوى انعكاس لترسبات التاريخ، وأن معظم حدودنا المعاصرة ما هي إلا مجرد خطوط متسرعة واعتباطية. السودان، الذي يعيش حرباً فوضوية هذه الأيام، مثال حاضرٌ لمعضلة الحدود العاجزة عن خلق انتماء لها، ففي ذلك البلد يقاتل أفراد من دول مجاورة، إلى جانب ميليشيا تهدف لـ»تحرير الخرطوم»، من دون أن يروا في ذلك بأسا، أو أن يقبلوا وصفهم بالمرتزقة. الحدود، التي لا تمتلك تأثيراً على وجدان الناس، هي التي جعلت مأساة مثل ما حدث في يوغوسلافيا السابقة وما يحدث حاليا في أوكرانيا، وفي غيرها أمراً قابلاً للتكرار. في افريقيا يتعثر تنفيذ مخطط الهجوم على النيجر بجيش «إكواس»، الذي تقوده نيجيريا، لأسباب من أهمها أن كثيراً من النيجيريين يعتبرون أن النيجر هي امتداد لوطنهم.
في أزمة قرة باغ المتطاولة تم تجريب جميع الحلول التقليدية، سقط الإقليم أولا تحت الاحتلال الأرميني، لكن هذا الضم القسري لم ينه المشكلة، بل ظلت أذربيجان تتعامل معه كاحتلال، حتى تمكنها في عام 2020من استعادته بعد حرب قصيرة. الأزمة لم تنته بعد النصر الأذري، بل تجدد الصراع القديم بين الديموغرافيا والجغرافيا.
دلالات كثيرة، تؤكد لنا أن صراعات الحاضر ليست سوى انعكاس لترسبات التاريخ، وأن معظم حدودنا المعاصرة ما هي إلا مجرد خطوط متسرعة واعتباطية
اليوم تُتهَم أذربيجان بأنها تلجأ لحل آخر، وهو تهجير الأرمينيين ودفعهم إلى خارج الحدود، يردد هذا الاتهام، الذي تنكره أذربيجان، كثير من الأوروبيين، الذين يرون أن التهجير والرغبة في اللعب بالديموغرافيا، هما السبب الحقيقي وراء العملية العسكرية الأخيرة.
تأكد للجميع أن نجاح أرمينيا في اجتياح الإقليم، أو إعادة السيطرة عليه صار أمراً صعباً في ظل الحلف العسكري، بين كل من أذربيجان وتركيا. بالتزامن مع هذا، نشأت جماعات انفصالية أرمينية في محاولة لتغيير الواقع. هذه الجماعات ورطت نفسها وشعبها في لعبة أكبر من مقدراتها، وتسبب طموحها غير العقلاني في صب مزيد من الزيت على النار. الانفصاليون لم يجدوا الدعم المنتظر، لا من الدولة الأرمينية ولا من روسيا المنشغلة بحربها في أوكرانيا، ولا حتى من الغرب. بهذا كان من الصعب تحقيق انتصار في ظل الافتقار للمقومات الأساسية التي تجعل هذه المجموعات في موازاة القدرات الأذرية. اليوم يدرك العقلاء من جميع الأطراف أن التحرك في اتجاه التمرد والانفصال كان خطأ كبيراً، حيث كان من تبعات ذلك التفكير المتهور منح السلطة المركزية في باكو، الحق في التوغل من أجل إطلاق عملية لـ»تنظيف المنطقة». نتج عن هذه العملية وما تزامن معها من حصار على الإقليم أزمة إنسانية تسببت في نزوح عشرات الآلاف من السكان. يجب هنا استحضار بعض الحقائق، التي تعين على فهم تعقيدات المشهد التاريخية والجيوسياسية واستيعاب ما نقصده بتسمية الحدود الاعتباطية. بتاريخ الأول من أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1827 قامت قوات روسيا القيصرية بقيادة إيفان باسكيفيتش باقتحام يريفان وضمها للإمبراطورية الروسية. للتذكير، فقد بقيت تلك المنطقة تحت الحكم الإسلامي أكثر من ألف سنة، بل كانت يريفان مشهورة بأنها مدينة المساجد والمشايخ والعلماء. مقارنة مع «المعضلة الكردية» يبدو الأرمن أفضل حظا، حيث حصلوا على وطن مستقل، بعد أن نحتت لهم روسيا مكاناً ضمن أراضيها الشاسعة. توضح الأزمة الحالية أن هذا النحت الصناعي للأوطان لا يحل المشكلات القومية بشكل نهائي، فليس كل الموجدين على أراضي جمهورية الأرمن الحالية هم أرمن بالضرورة، كما أن الحدود الوطنية الجديدة لم تشمل كل الأراضي التي يوجد فيها الأرمن، والتي تمتد عبر مساحات واسعة لدرجة أنه يصعب ضمها جميعاً في جغرافية سياسية واحدة.
تحظى الأقلية الكردية بمعاملة جيدة في جمهورية أرمينيا الحالية، لكن هذا التعامل الحسن لا يجعلهم ينسون أنهم كانوا يشكلون أغلبية في هذه المنطقة حتى بداية القرن الماضي، حتى أن لينين كان يطلق عليها اسم «كردستان الحمراء». كان ذلك قبل أن يبدأ الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين بإعادة توزيع الأقاليم السوفييتية، فيحضر أعداداً من الأرمن للمنطقة، مقابل التهجير القسري لحوالي مليوني كردي مع إزاحة الأذريين إلى أذربيجان الحالية. كانت عملية «إعادة التوزيع» هذه قنبلة موقوتة، فهي لم تكن ذات أثر ظاهر حينما كان الجميع ينتمون للوطن السوفييتي الواحد، لكن الوضع ما لبث أن انفجر بعد حصول الدول المنفصلة على الاستقلال، واكتشافها أن بعض قومياتها صارت ضمن حدود سياسية لدول أخرى. مفارقة أخرى لا يمكن تجاهلها وهي أنه، وعلى الرغم من كون أذربيجان دولة بغالبية مطلقة للمسلمين الشيعة، إلا أن علاقتها بإيران متوترة، بل ذهبت إيران، التي تتعاطف مع الشيعة في جميع أنحاء العالم، وتنصب نفسها حامية لهم، إلى الاصطفاف مع أرمينيا المسيحية ضدها. أحد الأسباب قد يكون أن عدد الأذريين في إيران هو أضعاف أعدادهم في أذربيجان، بل إن كثيراً من الشخصيات الدينية والسياسية الإيرانية هي أذرية الأصل وذلك بداية من المرشد علي خامنئي نفسه. هي مفارقة أخرى من مفارقات التعارض بين الديموغرافيا والجغرافيا، أو بين الشعوب والحدود، بسبب ذلك، من بين أسباب أخرى، فإن إيران ظلت تتعامل مع أذربيجان بحذر، خشية أن تدعم الأخيرة أي تطلعات للمواطنين الأذريين بالانفصال أو الانضمام إليها.
كانت ردود الأفعال الدولية حول الأحداث الأخيرة متفاوتة، روسيا، المنشغلة بالحرب الأوكرانية، التي تملك قوات لحفظ السلام في المنطقة، ظلت تظهر حماساً قليلاً للتدخل لصالح أرمينيا منذ التغيير السياسي في عام 2018 واستبدال النظام الذي كان مقرباً من الكرملين بآخر أكثر ميلًا إلى الغرب. إيران، الدولة الأخرى الفاعلة في الإقليم، بدا دورها كذلك ثانوياً، أما الصوت الأعلى فكان صوت تركيا، التي أكدت من جديد على تحالفها مع أذربيجان وعلى دعم حقها في الحفاظ على وحدة أراضيها وفق ما يكفله لها القانون الدولي. إلى جانب روابط التاريخ التي تربط البلدين، تحقق هذه العلاقة لتركيا الكثير من المكاسب، فأذربيجان هي سوق مهم، لاسيما للأسلحة، ومعبر لا يمكن الاستغناء عنه للنفاذ إلى دول آسيا الوسطى أو ما يسمى بـ»العالم التركي». أوروبا، وعلى الرغم من انحياز إعلامها وكثير من سياسييها للأرمن، الذين يتعرضون لتهجير وحرمان من الغذاء والدواء و»تطهير عرقي»، وفق وصف كثير من الفاعلين الأوروبيين، إلا أن رد فعلها تأخر. الأسباب قد يكون من بينها انعدام الرغبة في خسارة أذربيجان، التي لا تورد فقط غازها إلى أوروبا، ولكن غاز روسيا أيضاً بعد «تبييضه» ونقله كغاز أذري.
الخميس الماضي كان أهم رد فعل هو قرار البرلمان الأوروبي، الذي دعا إلى فرض عقوبات على أذربيجان المتهمة بالتطهير العرقي، وإلى وقف التعامل معها. أدان القرار كذلك تركيا بسبب تسليحها لأذربيجان ودعمها لها في تحركاتها العسكرية، وهو ما أغضب تركيا، التي وصفت القرار بـ»الشعبوي والعنصري والمعادي للإسلام». يجري حاليا الحديث عن استعادة المسار التفاوضي لحل الأزمة، لكن هذه الدعوات تواجهها تعقيدات جمة متعلقة في المقام الأول بمن أطلقها من الأوروبيين، الذين لا يخفون انحيازهم، ما يجعل منهم وسيطًا غير موثوق به بالنسبة للأذريين.
كاتب سوداني