ليس ثمة من يُنكر الآثار المادية والنفسية والمعنوية الناتجة عن قرصنة الكتب الإلكترونية، التي تعرف انتشارا واسعا في عصرنا، يتزامن مع التقدم التكنولوجي السريع الذي يشهده عالمنا. بلغت الظاهرة مبلغا حمل كثير من الكُتَّاب والإعلاميين على قرع ناقوس الخطر. خاض فيها وفي أبعادها وأخطارها كثيرون من منظور الكاتب المتضرر، الذي يصرف وقته وطاقته وماله في الكتابة والإبداع، ليقع بعد ذلك ضحية انتهازيين يقطفون ثمار جهده وعنائه.
سنحاول أن نتناول المسألة من زاوية أخرى ـ من منظور المذنب، بأن نحط في عالم القراصنة ونحادثهم، ونسعى لمشاهدة القرصنة بأعينهم، وندرك ما يجول في خاطرهم لفهم الظاهرة ومعرفة أنجع السبل لعلاجها، تماما مثلما يسعى الباحثون لإيجاد لقاحات مضادة للفيروسات، بالولوج إلى عالمها وترصد سلوكياتها. فما الذي يا ترى يجرّ القراصنة إلى عملٍ يُعدّ خرقا قانونيا، وسرقة علنية لحقوق الكُتَّاب والناشرين؟ كيف ينظرون إلى هذا الفعل وما موقفهم وشعورهم تجاه الكاتب المتضرر؟ وهل سيقوى عالمنا في يوم ما على التغلب على هذه الظاهرة؟ وقبل ذلك كله، ما حجم القرصنة وأبعادها؟
مستويات خطيرة
من النتائج الحتمية لانتشار تكنولوجيات المعلومات والاتصالات والسوشيال ميديا، توفيرُ أرضية خصبة لعمليات القرصنة التي بلغت مستويات خطيرة في السنوات الأخيرة. إذ يقدِّر مكتب الملكية الفكرية التابع للحكومة البريطانية، أن سدس الكتب الإلكترونية التي تمت قراءتها عبر الإنترنت في المملكة المتحدة في عام 2017 – حوالي 4 ملايين كتاب – تعرضت للقرصنة والاستهلاك غير القانوني. وتؤكد الأبحاث أنّ القراصنة ينتمون بشكل عام إلى فئات اجتماعية واقتصادية ميسورة، تتراوح أعمارهم بين 30 و60 عاما. يستخدم هؤلاء مواقع مختصة في القرصنة، ثم يلجؤون إلى السوشيال ميديا بحثا عن نصائح وإرشادات وحلول عندما تتعرض المواقع للإغلاق.
أوسع مما نتصور
لقد كثر الحديث عن قرصنة الكتب الإلكترونية، لكنّ الظاهرة لا تقتصر على الكتب، فهي أوسع وأشمل، تعاني منها صناعات مختلفة. ولا مقارنة بين آثارها المادية في سوق الكتب ومجالات أخرى كسوق الموسيقى والفيديو التي تخسر أموالا قياسية. تقرير المنظمة التجارية الأمريكية (أرآي أي أي RIAA) بعنوان (التكلفة الحقيقية لقرصنة التسجيلات الصوتية للاقتصاد الأمريكي) يشير إلى أنّ «الاقتصاد الأمريكي يفقد نسبة 12.5 مليار دولار من إجمالي الإنتاج سنويا نتيجة سرقة الموسيقى». وتؤدي قرصنة التسجيلات الصوتية إلى خسارة قدرها 71.060 وظيفة في الاقتصاد الأمريكي وحده! وللقرصنة بالغ الأثر في عالم السينما، حيث تتعدى نسبة مشاهدة الفيديوهات المقرصنة 230 مليار مشاهدة سنويا. وهكذا تتجاوز قرصنة الفيديو الرقمي كل الحدود مكلّفةً الاقتصاد الأمريكي ما بين 29.2 و71 مليار دولار سنويا! في المقابل يخسر ناشرو الكتب الأمريكيون 300 مليون دولار سنويا بسبب قرصنة الإنترنت، وهي نسبة قليلة مقارنة بخسائر صناعة الموسيقى والفيديو.
مبررات مادية
قرصنة الكتب الإلكترونية تظلّ هاجسا يلاحق الكاتب العربي، وهو يصارع لأجل الحياة. يتطلع هذا الكاتب إلى دخل يناله من الناشر، لا يتجاوز نسبة 10% من ثمن بيع الكتاب. وقد أحسنت بروين حبيب تصوير حاله في مقال بعنوان (جنة القراصنة ـ«القدس العربي»2 يناير/كانون الثاني 2022) متسائلة، «إذا لم يوفّر الناشر دخلا محترما للمؤلف الذي يقدّم جهدا وعملا فكريا فكيف يعيش؟ وكيف يستمر في إنتاج إبداعه؟» ونتساءل في المقابل عما يدفع شخصا إلى التعدي على حقوق الكاتب وسرقة مؤلفاته. وهل يدرك خطورة فعله؟ تردّ على سؤالنا صحيفة «الغارديان» البريطانية في مقال بعنوان («يمكنني الحصول على أي رواية أريدها في 30 ثانية»: هل يمكن إيقاف قرصنة الكتب؟). تذكر قصة فتاة تدعى أبينا، 18 سنة، لجأت إلى القرصنة. تقول «قرأت مؤخرا كتاب «أطفال الدم والعظام» للكاتب تومي أدييمي، وأعجبني كثيرا. انتابني شعور بالأسى، وأنا أقوم بتحميل الكتاب تحميلا غير قانوني، لكنّ والدتي وحيدة لا تقوى على إشباع شغفي الشديد بالقراءة». واستمتعت الفتاة أيضا بسلسلة (بيرسي جاكسون) بأكملها، دون أن تدفع فلسا واحدا لصاحبة الحقوق ريك ريوردان لأسباب اقتصادية أيضا.
قرصنة الكتب لا تؤثر في دخل الكاتب وحسب، بل أيضا في قدرته على تأمين عقود النشر المستقبلية، لكن لا يمكننا أن ننظر إليها على حدة وإنما كجزء لا يتجزأ من ظاهرة القرصنة العالمية، التي تنعكس آثارها في حقول متعددة كصناعة الموسيقى والفيديوهات والألعاب الإلكترونية والتطبيقات المختلفة.
الإلكتروني بسعر الورقي
يُخطئ من يعتقد أنّ القراصنة جميعا بخلاء يحيون على حساب الكاتب ويقرأون مجانا. فبعضهم يحرص على شراء النسخ الورقية لكاتبهم المفضل، ويلجؤون إلى تحميل الكتب ذاتها في صيغتها إلكترونية، لحفظها في أجهزتهم الإلكترونية لقراءتها في مناسبات كالسفر، ما يعفيهم من عناء حمل النسخ الورقية. وهو ما يؤكده أحد القراصنة في أحد المواقع الشهيرة المفتوحة للنقاشات بالإنكليزية في الفضاء الأزرق: «لقد اشتريت مئات الكتب الورقية لأني أعشقها، ولن أكفّ عن شرائها. لكنني أيضا أرغب في الحصول على هذه الكتب في صيغتها الإلكترونية، وعندما أفكر في شرائها وأنظر إلى أسعارها في الصيغة الرقمية، أصاب بالدهشة. فأسعار النسخ الرقمية تماثل الورقية، أو ربما أقل بدولار أو دولارين عن النسخ الورقية. اللعنة على هذا! إنه لأمر سخيف!».
يقترحون حلولا
يؤيد هذا الموقف كثير من القراصنة، مجتهدين لاقتراح الحلول. يقول أحدهم، «أنا أيضا أعاني من هذه المشكلة. في اعتقادي، من الضروري أن ترافق الكِتاب الذي نشتريه نسخة رقمية أيضا، مثلما هو الحال مع أقراص (الدي في دي) أريد نسخة ورقية لمكتبتي، وأخرى للقراءة الإلكترونية». قراصنة آخرون يشتكون من تكاليف النسخ الإلكترونية الباهظة، مقترحين حلولا لهذه المسألة. يقول أحدهم «في اعتقادي، لإقامة نظام قيم (وإن كنتُ غير متأكد من إمكانية تحقيق ذلك) يستحسن أن يزوّد القارئ برمز يلصق بالجزء الخلفي للكتاب، يتم تنشيطه عند شراء الكتاب الورقي يسمح للقارئ بتحميل كتاب إلكتروني مجاني للعنوان ذاته. وفي وسع الناشر إضافة دولار أو شيء من هذا القبيل لتكلفة الكتاب لسد العجز».
لا يعتبرونها سرقة
من الأشياء الغريبة التي تشدُّ انتباهنا ونحن نجول في عالم القراصنة، أنّ كثيرا منهم لا يعتقدون أنّ ما يفعلونه سرقة، أمثال هذا القرصان الذي يقول، «إذا اشتريتَ كتابا جديدا، ثم قمت بتحميله (قرصنةً) لقراءته على جهازك الإلكتروني، فلا بأس في ذلك». إنه أيضا موقف الفتاة أبينا في مقال «الغارديان». فهي إن كانت تأسف على تحميل المؤلفات، إلا أنها لا تعتقد أنّ ذلك سرقة لأنه ليس ماديا، «لن آخذ الطعام أو الملابس، دون أن أدفع ثمنها لصاحبها، لأنها أشياء مادية. أعتقد أنَّ حياة الواقع والإنترنت مختلفتان».
يتعاطفون مع الكاتب
المثير للاهتمام أيضا في عالم القراصنة، تعاطف كثير منهم مع الكُتَّاب المتضررين وكيف لا وهم معجبون بهم ومن قرائهم الأوفياء. يقول أحدهم، «بالطبع، أنا أعترف أن ما أقوله ليس مبررا للقرصنة. لكنني أفكر في الأمر بهذا الشكل. لقد قمتُ وما زلت أقوم بدعم جميع الكتاب المفضلين لديّ، سواء أكانوا أحياء أم أمواتا، بالاستمرار في شراء كتبهم الورقية».
قرصنة الكتب لا تؤثر في دخل الكاتب وحسب، بل أيضا في قدرته على تأمين عقود النشر المستقبلية، لكن لا يمكننا أن ننظر إليها على حدة وإنما كجزء لا يتجزأ من ظاهرة القرصنة العالمية، التي تنعكس آثارها في حقول متعددة كصناعة الموسيقى والفيديوهات والألعاب الإلكترونية والتطبيقات المختلفة. وهذه الظاهرة أكثر خطورة وتعقيدا مما نتصور، وهو ما تؤكده كل التقارير والإحصائيات. تقرير شركة التقنية (موسو) MUSO التي تقدّم حلول مكافحة القرصنة، يكشف أنَّ زيارة مواقع القرصنة في عام 2017 وحده تجاوز 300 مليار زيارة!
تتطلب جهودا مشتركة
الحلول لا تقتصر على مؤسسات أو جهات دون أخرى. يتطلّب الأمر تضافر جهود أطراف مختلفة وسن قوانين وإجراءات عابرة للحدود، بمشاركة كل الدول. ويتطلب معالجة أسباب ذكرها القراصنة وهم طرف فيها، كالأسعار الباهظة التي تباع بها الكتب. وتتطلب احتجاج الكاتب نفسه على الأسعار الخيالية لمؤلفاته في المعارض والمكتبات والأسواق، وتوفير الكتاب الإلكتروني بأسعار في متناول الجماهير البسيطة المتعطشة للقراءة، التي قد لا تجد المؤلفات المفضلة لديها بالقرب منها. وتقتضي الحلول أيضا تثقيف الجماهير التي أصبحت تنظر إلى تحميل الملفات والمؤلفات على أنه أمر عادي وليس خارجا عن القانون.
ويبقى السؤال: هل يستطيع عالمنا التغلب على قرصنة الكتب يوما؟ الجواب يكون حتما بالإيجاب، لكن ليس في المستقبل القريب، فمثلما أشارت بروين حبيب، «إن كان الورقي يمكن السيطرة عليه، فإنّ ما ينشر على شبكة الإنترنت لا يمكن التحكم فيه، فبمجرّد إطلاق نسخة الكتاب، تكون قد انتشرت في كل أصقاع العالم، وتناقلتها مواقع لا حصر لها، وهذا يجعل متابعة القراصنة عملية مستحيلة». في المعدل، يستغرق اكتشاف هجمات البرمجيات الخبيثة 243 يوما، وتكلفته 2.4 مليون دولار، ويستغرق حله 50 يوما.
كاتب جزائري
المشكلة ليست في القراء ولكن المشكلة في الذين امتهنوا القرصنة وأنشأوا مواقع لتحميل الكتب المقرصنة مجاناً ليستفيدوا من مردود الإعلانات التي يطالعها القارئ مدعين أنهم ينشرون الثقافة والمعرفة والعلوم.
كلام صحيح ربي يجيب الخير ان شاء الله
كلام صحيح و عمل ممتاز واصل يا استاذ
طرح جميل بفكر انيق وثاقب
تحياتي وتقديري