لبدايات الأفلام أحاديث تطول، هي مجالات دراسة لا تنتهي أمثلتُها في الأفلام الممتازة. الكلاسيكي منها يعطي لقطات بانورامية للجغرافيا، غير التقليدي منها ينطلق – بالعكس- من التفاصيل، من الضيق إلى الواسع، بعضها يبدأ بحادثة لاحقة ثم يعود بنا بالزمن، ليوصلنا إليها، بعضها يبدأ بسرد ممهد لما سنشاهده، وغيرها من البدايات التي يمكن أن تُوحي، مبدئياً بجودة الفيلم الذي سيمضي أحدنا وقتاً معتبَراً أمامه.
مما لا يمكن ألا يؤخذ بعين الاعتبار في الحديث عن البدايات، هي المَشاهد الأولى من فيلم «قصة زواج» مَشاهد تُستَقطَع من أحداث تنتصف الفيلمَ، أو حيث مكانها الزماني، وتستهلُه لتعطي وصفاً موسعاً لكلٍ من شخصيتيه الرئيسيتين، فنبدأ الفيلمَ بالتعرف على الشخصيتين، والفيلم يدور حولهما وحول علاقتهما، فالفيلم هو هذين الزوجين والحكاية بينهما، حبهما الذي بدا كبيرا في المشاهد الأولى، وتلاشي هذا الحب بأفعال آخرين محيطين، بتدخلات من خارج الشخصيتين دمرت هذا الحب.
البداية هي وصف لكل منهما إنما بكلام الآخر، وليس وصف الراوي، الذي يمكن أن يكون محايداً، هو وصف جميل ومُحب، وصف لما يحبه أو أحبه كل منهما في الآخر، إنما مكتوب إثر محاولات الانفصال، وهذا تناقض قد يكون مربِكاً، أن تبدأ الفيلم باعترافات أو أقوال كل من الشخصيتين في ما يحبه في الآخر، ضمن مرحلة انفصال، مرحلة يحاول فيها كل منهما إيذاء الآخر قدر الإمكان، كأن الحب الجميل الذي قُدم لنا في اللقطات هذه كان ماضياً بعيداً، كأننا أمام شخصيتين جديدتين.
الفيلم، بعد هذه اللقطات، كان بدايات الانفصال وعمليات إجرائية له، مع المحامين، وكل التعقيدات التي تخص مكان الإقامة والمحكمة وحضانة طفلهما وغيرها. ولم يكن الحب، في الفيلم، سوى في اللقطات الأولى، في ماضي الزوجين، الذي تدمره إجراءات المحامين وقد جعلاهما حيوانين يفترس أحدهما الآخر.
هذه «الحيوَنة» بانت في مشهد آخر، هو النقيض لما بدأ به الفيلم، وهو نقطة انعطافية في العلاقة بين الزوجين، إذ يبدآن، متى انفرد أحدهما بالآخر، في بيت الزوج، بنهش بعضهما بعضاً، كلاماً. محاولات الإيذاء الواضحة والدامية مشاعرياً، كانت تخرج من فم كل منهما تجاه الآخر، كالنقيض تماماً لما كتبه كل منهما تجاه الآخر، معرفاً إياه، بكل الحب الذي كان.
بدأ الفيلم برسالة كتبها كل من الزوجين، ليقرأها أمام الآخر وبرفقة أخصائي اجتماعي حاول الإصلاح بينهما، لتخرج الزوجة (سكارليت جوهانسن) وقد تراجعت، رافضة قراءة رسالتها، رغم استعداد الزوج (آدم درايفر) للبدء هو بقراءة رسالته. هنا ندرك أن الأمر، الآن، ليس كما كان، وليست الرسالة سوى ماضٍ لا تبدو العودة إليه قريبة أو معقولة. ليست البداية هذه منفصلة عن كل الفيلم، وإن كانت النقيض تماماً من عموم المشاعر والأحداث فيه، والتمهيد الذي قدمته هذه اللقطات كانت، لتناقضها مع ما سيليها، أشد إيضاحاً للتالي، لحالة الكره المستجدة، لمحاولات كل منهما (الزوجة تحديداً) إيذاء الآخر. فالفيلم يحكي عن حالة انفصال وطلاق، لكنها حالة ليست عادية، إذ أتت بعد حب كبير، وهذا الحب الكبير لم نتلقه سوى في دقائق كانت، لشدة قوتها وجمالها، كافية لندرك في الفيلم الممتلئ بالكره والانتقام، أن حباً كبيراً سبق ذلك، وأنه فيلم عن حب يتلاشى. نهايات الحب هي بعبارة أخرى بدايات بغض، لقوة اللقطات الأولى أقول إن الفيلم كان عن نهايات حب أكثر من كونه بدايات بغض.
بداية قوية كهذه، وانتصاف قوي كذلك (المشهد حيث ينهش الزوجان بعضهما كلامياً) لا يأتي منعزلاً عن سيناريو قوي، وحوارات بديعة، وأداء لافت، وتصوير وديكورات بسيطة بجمالها، إذ أعطت للأحداث وقعاً حقيقياً. الحوارات هنا أهم من الحكاية، فنحن أمام زوجين تلاشى الحب بينهما، وبدآ بإجراءات الطلاق، تأزم الوضع بإدراج محامين لذلك، تنتهي القصة هنا، باتفاق ما بينهما لحضانة ابنهما. يمكن لقصة كهذه أن تكون مملة ولا تُطاق، ويمكن كما هو الحال هنا أن تكون عملاً فنياً ممتعاً، مرهفاً وجميلاً، بصرياً وسردياً.
الفيلم (Marriage Story) الذي كتبه وأخرجه الأمريكي نووا بومباك، معروض على شبكة نتفليكس وشارك في مهرجان فينيسيا السينمائي، ونال حتى اللحظة العديد من الجوائز والترشيحات المستحقة، معظمها، (وليس هذا غريباً عن فيلم كهذا) كانت خاصة بالنقاد. وهو أخيراً، خاتمة جميلة للسينما «المستقلة» الأمريكية لهذه السنة.
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا