قصص جليل القيسي… التجاور الأسطوري والمعرفي

حجم الخط
0

القاص (جليل القيسي) ممن كان له ولع الدخول إلى الموروث الأسطوري والروائي من أجل التوظيف، ويكون هذا عبر ما عرف عن الأساطير والملاحم، ثم ما أفرزته قراءاته المعمقة والحسّية لكتابات (فيدور دستويفسكي). لذلك أتت كتاباته على منطلق تفعيل الشعري من خلال تنشيط الذاكرة المحاوِرة. فهو يتعامل مع المعرفة من باب شعريتها، وهذا ما لاحظناه على نصوصه، لاسيّما شخوصه التي تحمل دلالات إجتماسياسية وفلسفية خالصة. وقد كان هذا واضحا ً ومجسّدا ً أثناء تعامله مع مفردة الأسطورة أو نموذج أبطال (دستويفسكي)، وهذا تجسّد أيضا ً كنموذج واضح مع شخصية إلهة الماء والقصب والبردي السومرية (نيدابا) مثلا ً وطريقة تعامله مع هذا النموذج، وكيف أستطاع أن يعصّرن الشخصية ويعبر بدلالاتها وبلاغة وجودها الأسطوري، كذلك بدت مجموعة النماذج من الآلهة عبارة عن مؤثرات أثرت النص عند القيسي وأنضجت أنساقه ومعارفه. فالشعرية في السرد طاغية على بنية النص الذي يكتبه. وفعل هذا أيضا ً مع شخصيات (دستويفسكي)، مثل (اليوشا ــ راسكولنيكوف ــ الأمير ميشكين ــ وناتاشا وسميرداكوف). الأمر الذي دفعه إلى التماهي مع تراجيدية حياتهم مجسّدا ً الحقل الاجتماعي القاسي الذي يعيشون ضمنه، وبذلك حقق معادلا ً موضوعيا ً بين الثيمة المُستدعاة من الموروث وبين الواقع المعاش ببلاغة سردية فائقة القوة. فــ (القيسي) أتخذ من الموروث البعيد والقريب قناعا للتعبير عن الرؤى أو وجهة النظر وهذا الاستخدام تجسّد على مستويين، أولهما : توظيف الموروث الأسطوري لوادي الرافدين وثانيهما : توظيف الموروث القرائي ومحاكاة مفرداته، وحصَرَ التناص مع أجواء شخصيات روايات (دستويفسكي).

ولم يكن ليختار هذا العالم لولا أن أدب الكاتب يبهر النفس والذائقة، ويستفز الوعي بما ينطوي عليه من تميّز في البلاغة والعمق الفكري والأخلاقي. ففي المجال الأول نجده يخلق مشهدا ً يندمج فيه الحاضر بالماضي، عبر رؤية منفتحة ومخلِّقة. مسايرا ً مخيّلة مخصًبة ومخصِّبة معرفيا ً، تعتمد المعرفة بخصائص الموروث الأسطوري، وتمثلها إنما يعني فهم حركة الواقع للوصول إلى ما يقرّب ذاك من هذا. وبذلك تم ترحيل الوعي الحاضر إلى الماضي، واستقدامهما إلى الحاضر مرة أخرى، مع التأكيد على خصوصية المكان والزمان و خلق معرفة متصلة بين الاثنين. أما في مجال التناص مع محتوى روايات (دستويفسكي)، فهو نوع من التلاقح المعرفي أيضا ً والدال على قراءة معمقة وحسية، بمعنى ــ القراءة الشعرية ــ إن جاز التعبير ــ الغرض منها عكس خصائص الشخصيات وأثرها على الأمكنة، لكي يقيم مقارنة ومقاربة بين زمنين من حيث المفهوم والفكر والنمط ، الغرض منه إعادة الهيبة إلى القيّم الإنسانية المتمثلة بالقيّم الأخلاقية. تلك المنظومة التي ينظر إليها (القيسي) عبر رؤية (إليوشا) مثلا ً في رواية (الأخوة كارامازوف).

وفي كل هذه الأنماط نجد أن البطل هو (جليل القيسي)، وهو من يقيم مثل هذه العلاقات أو الجدليات، لعكس خصائصه الفكرية والمعرفية، وصلته بمكانه (أرابخا ، أرانجا). فالنصوص تلك عبارة عن أسفار عبر الحلم والمخيلة السردية في اتجاه الماضي. وهي حالات تخلقها ضغوط المعرفة المتحركة، ويزيدها في الترحيل ضغوط الحاضر ومجرياته. فالموروث هنا بمثابة موقظ لمعرفة كامنة. إذ من الملاحظ على هذه النصوص طغيان مبدأ الحقيقة أو الحقيقي البديل فكرياً وأخلاقياً. فالنص عندما يحيل مصادفة نصـّية في اتجاه الماضي، ويقيم علاقة صلة معه، لا يقطع العلاقة مع الحاضر. فالتناص يضعنا أمام نص متكامل، مكتف بذاته، يلعب فيه المخيـّال دوراً لا يقتصر على كونه مذكِرا ً ــ بكسر الكاف ــ، وإنما يقيم علاقة دمج مع الشخصيات وتماهي الحدود بين الأزمنة. فالرابط الحسّي متوفر عليه بين السارد وبين من يلتقي بهم على وفق استدراج سردي عالي الأداء.

وفي كل هذه الأنماط نجد أن البطل هو (جليل القيسي)، وهو من يقيم مثل هذه العلاقات أو الجدليات، لعكس خصائصه الفكرية والمعرفية، وصلته بمكانه (أرابخا ، أرانجا). فالنصوص تلك عبارة عن أسفار عبر الحلم والمخيلة السردية في اتجاه الماضي.

البعد الحضاري

إن الرحلات التي عكستها القصص كشفت لنا وعيا ً بالموروث، ذلك من خلال الصيغة الدلالية القائمة بين القيسي راويا ً ومشاركا ً، وبين الرموز التي التقى بها ضمن مسار الحياة من خلال المخيّال السردي. إن مجمل التوظيفات عند القاص، تتمركز في الخلاصات الفكرية والاعتبارات الأخلاقية المؤشرة للبعد الحضاري عبر إحداث مزاوجة ومقارنة بين خصائص العصر والماضي، ثم بلورة موقف واضح، هو في مجمله أسطوري ــ مثيولوجي، ذو معبر نحو المستوى الحضاري ومركزة الإنسان ووجوده الحرج جرّاء الصادم الحضاري.
إن رؤى نموذجه ترشح بـُعدا ً أخلاقيا ً، أساسه بنى فكرية تتعلق بمعنى الوجود أو عدمه. فالقيسي حين يعبـّر عن هذه الثيمات، لا يبتعد عن الواقع بكل دلالاته وتفاصيله، بل هو حريص على تشكـّل منطلقه هذا. إذ تـُحركه قوى دينية، ترتكز على البنى الأخلاقية للنموذج المثال، وهو الناسك الذي يبحث عن وجود حقيقي نقي، مترفع عن كل ما يشوب الواقع. وهو بذلك يقترب كثيرا ً من رؤية (أليوشا) الذي خرج من معطف عائلة كارامازوف، بسبب تأثيرات الراهب (زوسيما). وهذا البحث الذي تجريه الشخصية المحورية دائما ً، سواء عبر الأسطورة أم من خلال النماذج الروائية، يصب في ذات تصعيد الجانب النقدي، الذي يتعمد على خلق نوع من البانوراما التي استلزمت حوارا ً دائما ً لإنضاج معرفة سداها عرض الأفكار. إذ يجري من خلالها عرض الخصائص للوضع المعاش على مستوى فكري ــ أخلاقي.

تسترسل قصص (جليل القيسي) على نحو متتابع ومتوال في نسج حدثها، بعيدا ً عن افتعال الشكل الفني، أو إقحام الثيمات التي قد تـُبعد النص عن بؤرته الحقيقية. ويمكن القول أن النص عنده يمتلك وحدة الموضوع. فالنسيج المختلفة أرسالاته ومنابعه ومبرراته، غدا يصب في مصب واحد ينضج من خلاله حدث النص. لعل ما يلفت النظر في سرديات (القيسي) هي المخيلة السردية المحتشدة بالمعرفة، والمعرفة المتمَثلة ــ بفتح الميم الثانية ــ ، والسارد عنده أكثر ميلا ً إلى المحاجّة وفرز الأفكار، أو عبر قراءته لمتن التأريخ. إذ أستطاع أن يؤسس وجهة النظر. لذا نجده ــ أي السارد ــ مشارك تارة في النص عبر الثيمة التاريخية والأسطورية، معتمدا ً حالة الانزياح في تفاصيل المتن، لدرجة إنشاء فضاءات جديدة لا تبتعد عن طبيعة ما كان ، لكنها تستقل عنه بالدلالة. ويبقى الحدث فيه متمثلا ً للواقع وتبقى انطلاقته الأساسية هنا، في عدم الانسجام مع الواقع الآني، وعدم تقبل ما هو شائع ومتحكم في المصائر الأساسية. وكل هذا تؤدي فيه المخيّلة السردية دورا ً مخلـّقا ً وبانيا ً. مما يدفع بعض النصوص إلى العبور من المنحى الفلسفي والاجتماعي إلى السياسي. لكن (القيسي) يبتعد كثيرا ً عن المعلن والمباشر، بل يضمر ويوحي بذلك. وأبرز مثل على هذا قصتين هما (نيدابا وأمسية قصيرة مع الأمير).

التناص والأسطورة

إن ما يتهيأ داخل النص عنده، ومن خلال المخيـّال، هو خاصية تشكـّل الزمان في نصه، فهو يحيله إلى سلسلة متصلة لا فواصل بينها بين الزمان الواقعي والآخر الأسطوري مثلا ً، بل هما وحدتان متلازمتان ترشحان أمكنة تستقبل الإنسان لتُشيّد معالم جديدة تقرّب المناخ الأسطوري من الزمن الحالي، وتقلل كثيرا ً من النظرة المزاحمة من خارج المشهد لمجريات واقع النص. فـ (القيسي) يمتلك عدة فنية مصحوبة بفطنة تحكمها حالة تؤسسها بنية فكرية. وحصرا ً بنية فكرية ــ أخلاقية، حاول من خلالها أن يعكس النقيض بتوالي الأمثلة، سواء من خلال التأريخ الأسطوري، أم عبر ثيمات روايات (دستويفسكي)، التي بدت هيمنتها عليه واضحة . فكان مثل (دستويفسكي) مسكونا ً بالبعد الأخلاقي ودافعه في ذلك المستوى الفكري الخالص.

في مجال التناص والأسطورة، لا يضع (القيسي) حدودا ً لما يرفد أحدهما الآخر، وإنما نجدهما ينفتحان على بعضهما. ونعني به ؛ أن التناص يشرّع أبوابه للثيمات المتعددة. الغرض منها التعبير عما يُصلح الخطأ والخلل في الواقع، على الرغم من أن النص بطرحه هذا إنما يؤسس حالة مفارقة خفية ليس إلا ّ، باعتماد الصورة وظهيرها. إذ من الملاحظ في هذا الصدد أن (القيسي) يمتلك قدرة فائقة بخصوص المخيّلة، واستقرار منظوماتها المعرفية والحسّية. والأمثلة كثيرة على ذلك، لاسيّما في قصصه التي ضمتها مجموعته (مملكة الانعكاسات الضوئية) (2) . وهذه التناصـّات تتأصل وترسخ في النص من خلال وجهات النظر الرصينة. فالمخيّلة هنا تخلق الحال ونقيضها تماما ً. لذا فميدانها الإنتاجي معقد، لأنه قد يعتمد على شذرات ما هو متوفر في المتن الأسطوري أو الروائي. إلا ّ أن له مستويات من التغيير والانزياح، ومن ثم التأسيس الجديد. إن نص (جليل القيسي) يزخر بالتنوع، على الرغم من أنه يتناول معلمين أساسيين هما : الأساطير وعالم دستويفسكي الروائي، لأجل الضرب في التنوع المحصور في الرؤى المدعومة بالمعرفة، سواء بما يمثل هذين العالمين أو بمجريات الواقع، فالأساطير ومفردات التناص هي ظواهر حراك ثقافي ــ فكري أخلاقي، يتخذه المبدع هنا للتعبير وعكس الكثير من المفاهيم والأفكار. وللوهلة الأولى نرى أن القاص لا تأخذه صيرورة مثل هذه الاتجاهات بحيث تضيـّعه داخل جاهز الأفكار ومحتوى الأساطير ومعانيها، بسبب ثراء المخيلة أولا ً، وثراء لغته التي تشكـّل العلامة البارزة ثانيا ً إذ يترشح من خلال النص المعرفة وصفاء الرؤية وقوة طرح وجهات النظر وحيويتها، ثم القناعة في مستوى المعالجة.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية